وحدنا نحن العرب، من بين كل شعوب الأرض قد قمنا بقطع الحبال الواصلة ما بين حضارتنا وديننا الحنيف، ولم يصلنا من تلك الحضارة سوى شذرات شعرية (المعلقات) والتي لم تكن لتسلم - ربما- لولا كونها معلقة على جدار الكعبة المشرفة.
وأظن أن عنصرين قد ساهما في تشكيل هذا الوضع هما: وهن الحضارة من جانب بمحدودية معالمها - ربما- وعظمة الدين وشموخه من جانب آخر، جعل الانبهار به يطفئ ما قبله.
وانطلاقاً من قول سيد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم:"أنا أعلم منكم بشؤون دينكم وأنتم أعلم مني بشؤون دنياكم"، صار تجسيداً لقول الله عز وجل، واهتداؤنا بالسنة المباركة ضياء لنا في دنيا المتغيرات المتسارعة، وذلك باستخدام سلاحي العقل والنقل، على أن يخدم كل منهما الآخر. ولا شك في أهمية أسبقية العقل على النقل لأنه مصدر الحركة الفكرية الذي يشع ضياء باتجاه النص المنقول ليجعله ملائماً للحياة العصرية من أجل أن يبقى هذا الدين العظيم ملائماً لكل زمان ومكان، لا كما ندعي، بل كما نؤمن به حقاً. ولو تأملنا الحال من حولنا لأدركنا بأننا نمارس هذا السلوك على المستوى السياسي وما يطوي تحت عباءته من قضايا اقتصادية واجتماعية وتربوية أيضاً، يتعدى هذا المستوى العام إلى المستوى الخاص. سأضرب لذلك بعض الأمثلة:
أولها: في مواجهة العدو يأتي الأمر الرباني للمواجهة في قوله "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" تصوروا معي لو التزمنا بالنص نقلاً دون استخدام العقل وتحديث المعنى، عندها تصبح قوانا الدفاعية.. هلامية.
الثاني: والآية الثانية "السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، رحمة واسعة للشيخ محمد عبده الذي استخدم قطع اليد في تفسيره لهذه الآية الكريمة كناية عن الكف عن الحاجة المؤدية إلى السرقة ومثلها بالاستخدام المجازي في تعبير قطع الرجل عن البيت بمعنى الامتناع عن دخوله، حين أكمل بالإيضاح بأنه أمر لولي الأمر على أن يهيئ الظروف التي تحمي الإنسان ولا تدفعه تجاه "السرقة".. هذا هو العقل.
الثالث: هو الموسيقى التي لم يرد في القرآن نص لتحريمها، لكن الاعتماد كله كان على سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، عندما أغلق أذنيه عندما سمع صوت "الربابة".
أما نحن اليوم- فإن أكثرنا- يغلق أذنيه عند سماعه صوت "الربابة" مهما بلغ قربها أو بعدها من تراثنا الصحراوي، فهو صوت مزعج حقاً، لكنه مزعج في آذان، وآذان أخرى تقبله، ثم إن إغلاق الآذان لا يصل إلى حد التحريم كما أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحب مشاهدة الراقصين مثلاً، لكنه سمح لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تطل عليهم من أجل جلب البسمة وراحة النفس، وما وجد سيد الخلق في ذلك غضاضة.
لكننا نعيش زمناً صعد البعض منا سلم السلطة تحت عباءة الدين، وأمسكوا بتلابيب النفس البشرية من عصب الحياة فيها، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الدين والدنيا وحلم "الحكم" يراود خيالهم في المنام، وفي الصحو مغلفاً بغلاف الدين، الذي تمثل الطاقة فيه ترجمة للإجلال والاحترام والتقديس، دون وضوح في الوعي للتفريق ما بين الطاعة للدين ذاته أم لمن يمثلونه، ويحتكرون مصادر تفسيره وفق أهوائهم الذاتية.