بالإشارة إلى ما تطرقنا إليه في مقالة الأسبوع الماضي حول بروز تعددية قطبية اقتصادية جديدة في العلاقات الدولية، فإنه يمكن التنويه إلى بعض أشكال هذا التنافس المستجدة والتي أفرزتها التكنولوجيا والابتكارات الحديثة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والتي أتاحت فرصاً شبه متكافئة للقوى الاقتصادية الجديدة مع القوى التقليدية. ويبرز هذا التنافس بقوة، سواء في منصات التواصل الاجتماعي، كمنصة «X» و«واتساب» و«تيك توك» أو «تلغرام» وغيرها، كما يبرز بوضوح في بعض الصناعات، كالطائرات المسيرة «الدرون» والسيارات الكهربائية والتي ستكون موضوع مقالنا هذا بسبب الأثر الذي ستتركه على صناعة السيارات ولارتباطها بسلعة استهلاكية واسعة الانتشار.
وتكمن الإشارة إلى التفاوت بين القوتين، الصاعدة والتقليدية، فالأولى تتمتع بقدرات تنافسية قوية تستند إلى الثروات المعدنية الطبيعية، كالنحاس والليثيوم المتوفرين بكميات كبيرة في أراضيها، وتكلفة الإنتاج الرخيصة.. وهو ما تفتقر إليه القوى التقليدية التي تحاول لجم هذا الاندفاع الآسيوي عن طريق المقاطعة والدعم المالي والعودة للحمائية التي كانت لعقود طويلة من أشد منتقديها، حيث حذرت وزيرة الخزانة الأميركية «جانيت يلين» من أن «واشنطن لن تقبل تدمير صناعاتها الجديدة بسبب الواردات الصينية»، معربةً عن قلقها من «القدرة الفائضة» للإنتاج الصناعي الصيني والذي يوفر منتجات رخيصة، بما فيها السيارات الكهربائية.
وفي آخر تقرير نشره الاتحاد الأوروبي عن «التشوهات الصينية» في قطاعات الاتصالات وأشباه الموصلات والطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية.. والذي يحث على حماية المنتجات الأوروبية من مثيلتها الصينية، حيث تقدم دول الاتحاد دعماً مالياً كبيراً لصناعتها، في حين اعتبرت الصين أن هذه الإجراءات من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ترمي إلى الحد من صعودها الاقتصادي، حيث قال وزير التجارة الصيني «وانغ وينتاو» بأن إنتاج السيارات الكهربائية في بلاده لا يعتمد على الدعم، بل جاء بفضل الابتكار ونظام الإنتاج وسلاسل التوريد المثالية.. وقد توقع أن تبلغ حصة مبيعات السيارات الكهربائية الصينية في الأسواق الأوروبية 15% العام القادم.
ولاشتداد التنافس هذا خلفيات ناجمة عن التغيرات الكبيرة في الأسواق؛ فبعد أن تصدّرت مبيعات «تسلا» الأميركية مبيعات السيارات لسنوات عديدة، أزاحتها عن عرشها مؤخراً شركة صناعة السيارات الكهربائية الصينية «بي واي دي» كأكبر شركة لصناعة السيارات الكهربائية، حيث ارتفعت مبيعاتها العام الماضي إلى أكثر من ثلاثة ملايين سيارة متفوقةً على «تسلا»، كما ارتفعت أرباحها بنسبة 75% بعد أن قامت ببناء مصانع للسيارات الكهربائية في كل مصر وتايلند والمجر والبرازيل، حيث دفع هذا التقدم وإغراءات التوسع شركاتٍ أخرى إلى التفكير في إنتاج السيارات الكهربائية.
ومن أصل 17.5 مليون سيارة كهربائية يتوقع بيعها هذا العام، فإن نسبة 70% منها سيتم إنتاجها في الصين! وفي مقابل 33% حصة السيارات الصينية، فإن حصة «تسلا» لن تتجاوز 9%، وهو ما حدا بالولايات المتحدة إلى إلغاء الإعفاءات الضريبية لمشتري السيارات الكهربائية إذا كانت المعادن فيها أو مكونات بطارياتها مصنوعة في الصين، حيث ردت الصين بتقديم شكوى لمنظمة التجارة العالمية باعتبار أن هذه الإجراءات تمييزية، خصوصاً وأن الصين هي المنتج الرئيس لبطاريات السيارات الكهربائية، وحيث تعتمد الكثير من السيارات المنتجة في الغرب على البطاريات المنتجة في الصين.
وفي جانب مهم آخر، فقد دخلت بعض الدول العربية مجالَ المنافسة في الصناعات الحديثة، كصناعة السيارات الكهربائية، حيث أعلنت شركة «نيو» الصينية لصناعة السيارات الكهربائية أن أبوظبي ستستثمر 740 مليون دولار في الشركة، كما افتتح في دبي مصنع للسيارات الكهربائية. وفي نهاية العام الماضي افتتح مصنع آخر للسيارات الكهربائية بمدينة جدة من قبل شركة «لوسيد». وهذا علماً بأن السعودية دشنت في عام 2022 علامة «سير» للسيارات الكهربائية وخصصت مبلغ 6 مليارات دولار لإقامة مجمع لمعادن وبطاريات السيارات، كما اتفق المغرب مؤخراً مع الصين على إقامة مصنع لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية بقيمة 300 مليون دولار.
وتشير مجمل هذه التطورات إلى حدة التنافس القادم في الصناعات التكنولوجية الحديثة، بما فيها السيارات الكهربائية والتي يملك كل طرف فيها ميزات تنافسية، علماً بأن الكفة ستميل لصالح الدول التي تملك ثروة من المعادن اللازمة لهذه الصناعات، بالإضافة إلى تكاليف الإنتاج الرخيصة والأسواق النشطة.

*خبير ومستشار اقتصادي