كنت دائماً أتخيل (الجديد)، حجراً يلقى وسط بحيرة راكدة قد يكون خفيف الوزن فيلاحظ أو لا يلاحظ، وقد يكون متوسطا فيتقبله الناس بلا ضرر ولا ضرار، وقد يكون ثقيلاً يحدث ضجة يستنزف السالب والموجب من أحاسيس البشر، تعبيراً باللسان أو القلم، وغالباً ما يحدث ذلك قبل أن تتم عملية الدنو من هذا الجديد، ومحاولة التعرف عليه أو فهمه واستيعابه.
أرى شخصياً التطرف في جميع هذه المواقف. فلا الاستخفاف واللامبالاة نافعان، ولا القبول الأعمى صالحاً، ولا الثورة المضادة بالقبول أو الرفض تنبئ عن تحضر في ثقافة المجتمع. وبالمقارنة المعتمدة على المصدر الوحيد، وهو الذاكرة أجد أن الأجداد في الخليج كانوا أكثر حكمة في التعامل مع المستجدات بانتقاء نقلتهم إلى الحاضر بأدواته الحديثة دون مساس بالتراث العتيق. لكن حكمة الأمس النابعة من التجربة الذاتية القاسية وسط الطبيعة الأقسى لم يعد لها وجود وسط الرخاء المادي، والتعليم الفاقد لقدرته على بناء المواطن الجديد، حتى تمّ للرأي احتلال موقع مهب الريح، أي بلا جذور مما يجعله يسحب أو ينسحب بسهولة ويسر وفي أي اتجاه، بدءاً من شدة المحافظة باسم الدين أو التدين، إلى قمة الانفلات باسم التحرر أو التقدم، فلا ديننا السمح يفرض على الإنسان التشدد وهو الذي يدعو إلى اليسر قبل العسر، ولا الانفلات يمثل التحرر، فللطرفان مقياس معلوم يمثل غياب الواحد منهما عن جو الآخر زيادة أو مضاعفة في جهله به، وبالتالي فإن رفضه ونقمته عليه تصبحان تحصيل حاصل.
ولأنني أدعي عدم غيابي، بل ووقوفي في بقعة متوسطة ما بين الانغلاق والتحرر فإنني تابعت البعض وليس الكل من برامج "أكاديمية النجوم" سواء في ذلك الحفل الأسبوعي أو ما تم بواسطة الكاميرا الخفية، وما أعطيت نفسي لحظة من النسيان أو الغفلة بأن هذا البرنامج يأخذ من "لبنان" مصدراً لإشعاعه بكل ما تحمل لبنان من معالم اجتماعية معروفة ومقبولة. كان هذا بالدرجة الأولى، أما الدرجة الثانية، فقد وقفت ولأول مرة وبانبهار شديد أمام متطلبات العمل الفني حتى يرقى إلى المستوى المطلوب من جهد جهيد، في التدريب والتعليم والتأهيل جسدياً، ونفسياً، وروحياً، وعلمياً، فالموهبة وحدها لا تكفي، والصقل الذي نسمع عنه ليس مجرد فرصة وقوف أمام الميكروفون بالاستعانة بالأزياء والمكياج، وما يلحق بهما من الزخرف.
لقد قدم البرنامج دورة تثقيف للذوق العربي بتقديم المصفاة الحقيقية للفن وتخليصه من الشوائب العالقة به عبر موجات الفيديو كليب التي أوشكت على إعدامه. فإن كان الفن ضرورة حياتية للبشر كافة كعنصر تنشيط ذهني، وعلاج نفسي، وإبداع فكري، فإنه للعرب الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم "أشد كفراً ونفاقا" يمثل الضرورة الضرورية لتهدئة النفوس الجالسة على حافة الفوران دوماً، ولإعادة حبال الأعصاب إلى طولها الطبيعي بعد أن عبثت بها الأيام شداً وجذباً. وبصراحة أكبر أقول هنا إن ما يحزنني حقاً إنما هو تفرد الكويت وطني الحبيب بإنتاج، وتوزيع، وتوريد "المحرمات" وكأننا وكلاء لها، أوصياء على العالم، ونحن المتدينين نعرف تماماً أنه حتى قراءة القرآن الكريم وحتى تصل إلى الوجدان لابد لها من صوت له من الموهبة الإلهية في الجمال والإجادة في سرعة تعلم اللغة وإتقان بلاغتها والتأهيل بالتدريب على استخدام النفس العميق من أجل تطويع الصوت. وعليه فإن ما لا يقل عن مليون مقرئ يتواجدون في العالم الإسلامي، ولكننا نسمع ونخشع لعشرات منهم فقط، نتداول أشرطتهم وكذلك إذاعات القرآن الكريم، تسمعنا إياهم في أكثر الأوقات أهمية.
للدين رسالة سامية، وللفن كذلك، والإنسان السويّ يحتاج للإثنين معاً، رغم أن للأول على الآخر درجة.