عندما عقدت "أم عباس" العزم على مد بساط الكرم، كان غرضها هو خروجها وإخراج جاراتها من تحت أنقاض الشكاوى المتلاحقة والمتراكمة على رؤوسهن، حزنا على فوات سريع لسني التواصل والمحبة والألفة. اليوم، تقول أم عباس، لا يشبه الأمس الجميل في شيء. ولكن شيئا في صدرها يقول لها إن رمقا في الحياة لابد من احتوائه لعله يأتي بما نحلم به. وكانت دعوة مغلفة بكرم ما بعده كرم، خططت لها كما لم يسبق لها أن خططت وهي الحصيفة في ذلك، وما غاب عن ذهنها المراعاة لاختلاف الأمزجة والعقول والنفوس.
كان استقبال الجارات عجيباً، وكأن كل واحدة كانت بانتظار ذاك اليوم. ذهب تفكير أم عباس أول ما ذهب باتجاه قائمة الطعام، وفكرت بالمثل العظيم:"عند البطون تعمى العيون" وأطلقت الآه ضاحكة: كم أتمنى أن أعمي العيون وأخرس الأفواه كذلك. وتركز الاهتمام على اختيار الأطباق حسب الشكل، والموضوع، اللون، الطعم وترك للهضم سبيله الذاتي الخاص.
فالمتشبوس بالدجاج مثلا هو للمسكينة أم خالد التي حرمتها الأملاح وتهديد الدكتور لها باحتمال تعرضها لمرض النقرس، من أكل اللحوم التي تعشقها. أما تشريبة الكوارع (الفتة) فتستحقها أم علي التي طال انتظارها لاكتمال طقم الأسنان الموعود، حتى أصبحت الصديقات يطلقن عليها مسمى "كسارة البندق". لكن أم جاسم الحالمة دوما بزيادة أونصه واحدة لوزنها حتى تستقر ما بين عظامها البارزة وجلدها الفضفاض فإنها تستحق الرز المشخول مع مرقة البطاطس باللحم، ولا توجد في الحي من تتمنى دوما أن تفطر بالعسل وتتعشى بالدبس مثل أم عزيز التي تحمل في جيبها إبر الإنسولين وتتوقع أن تحتضن طبق البلاليط (الشعيرية بالسكر) مكسوا بالبيض. أما أم أحمد الشهيرة بقهر كل ما يواجهها معلنة عجزها الوحيد أمام الكوليسترول، فإنها عاشقة لأنواع الكبب والمقليات بحجة أن العمر واحد، وحبوب الكوليسترول تفرش الدرب بالزهر والزهور.
وتتساءل "أم عباس" هل يمكن لسفرة أن يكتمل احتشامها بدون صينية الدولمة "محشو البصل وورق العنب والملحقات" المستندة على مخدة من شحم كفل الخروف، ستكون إذن للجارة العزباء التي عبرت بها الحياة ممرات طويلة من طراوة الوعود، وجفاف الوفاء، واختارت الاستخفاف أسلوبا لحياتها، مرحبة دوما بتراكم الشحم واللحم وملحقاته على جسدها.
وهكذا... تم اللقاء بالانشراح المتوقع، وتبادل الصحب حديثا عن الصحة - كما هي العادة- تطور إلى محاولات التوفيق ما بين الشهوة الذاتية وأوامر الأطباء، وحملن أثقال العمر والعلل الصحية للهبوط أمام السفرة العامرة حيث حدث خلل تنظيمي بسيط حال دون جلوس الواحدة منهن أمام طبقها الخاص والمعد لها خصيصا، مما فتح المجال أمام المطالب وتطويع حركة الأطباق باتجاه تلك المطالب، حتى تاه القوم ما بين شخصانية الحاجة والإرادة وسط عمومية الغرض، وكذلك ما بين لذة الأمس، وقدرة اليوم على التنازل من أجل حياة مستقبلية صحية.
أما المضيفة أم عباس فقد كانت تنقل نظرها بين الوجوه، وتطلب الرضى ولا تجده، فما كان منها إلا أن صفقت بيديها طالبة من معاوناتها أن يرفعن السفرة وأن تستبدل بكؤوس من الماء الزلال... والوداع، تماما كما حدث لوليمة تونس لوزراء الخارجية وإعلانه تأجيل القمة العربية إلى أجل غير مسمى.