لو تأملنا في تاريخ الأمم التي حققت نهضة حضارية شاملة من حالة التخلف والركود إلى حالة التنمية والتقدم، نجد أنها جميعاً تشترك في مجموعة واحدة من القيم والمعايير، كانت هذه القيم السبب الأساسي لنهوضها وتقدمها، وعليها بنت حضارتها. وهذه القيم عامة لا تعرف الحواجز الثقافية أو الاختلافات الدينية أو العرقية، فهي قيم إنسانية عامة يستطيع من يستوعبها أن يتحرك بمجتمعه خطوات واسعة نحو المستقبل الزاهر والغد الأفضل. ومن أهم هذه القيم، قيمة الإنجاز والمبادرة، فالأمم التي تنتشر فيها روح المبادرة حتى تصير روحاً عامة يشترك فيها جميع أبنائها، أمم لا محالة سائرة في طريق التقدم والنهوض، والأمم التي تسودها روح القعود وثقافة المزايدات بين القاعدين، أمم لاشك أنها تتحرك بسرعة الضوء إلى الخلف، حتى تصل في الانحطاط درجات ليست هناك دونها درجات. إن ثقافة المزايدة ثقافة جهل مركب، وليس جهلاً بسيطاً؛ حيث الجهل البسيط كما يقول الجويني: هو إدراك الشيء على غير حقيقته، أما الجهل المركب فإنه إدراك الشيء على غير حقيقته مع يقين بأنه يدركه على حقيقته. وهذا المزايد دائماً يقع في دائرة الجهل المركب؛ فهو يرى الأشياء على غير حقيقتها، ويتهم الآخرين بالجهل أو الخيانة أو العمالة أو الكفر أو الظلامية والرجعية، لأنهم لا يرون ما يرى، ولا يعتقدون ما يعتقد، ولا يوافقونه على جهله اليقيني الذي أصبح عقيدة يرى فيها الصدق المطلق. ومن خطر ثقافة المزايدة، أنها تغلق أبواب الإبداع والمبادرة، لأنها تحول الشخص المبادر إلى خارج عن إطار الدين والقيم، لأنه فكر في مبادرة جديدة من الواجب أن تتم دراستها وإعطاؤها الفرصة الكاملة، ثم تقييمها. لكن المزايدين يغلقون الباب أمام التفكير المبادر؛ لأنهم يزايدون على الدين والقيم، ويعتبرون كل من يفكر في مبادرة خارجاً عن الدين، ومتنازلاً عن القيم؛ لذلك لابد من قتله، أو قتل روح المبادرة فيه، وكلاهما قتل لإنسانية الإنسان. فالمزايدون على الدين والقيم يحولونهما إلى عوائق أمام التفكير والإبداع وروح المبادرة، ويستخدمونهما كقيود أو سياط أو سيوف يكبل بها أو يضرب بها أو تقطع رقاب كل من يفكر في تغيير الواقع وتحريك الأمم والشعوب والمجتمعات نحو حياة أفضل تتجاوز سلبيات اليوم إلى إيجابيات الغد. والأمم لا تنهض إلا إذا تعلقت عيونها وقلوبها وأفكارها وكل طاقاتها بالغد والمستقبل، دون أن تنسى ما فيها أو تتجاوزه، ودون أن تتخلى عن ذاتها وتاريخها وقيمها ودينها، فلم توجد أمة استطاعت التقدم والنهوض بالاعتماد على الماضي دون المستقبل، كذلك لم توجد أمة حققت نهضة حضارية بالقفز إلى المستقبل دون احترام الماضي والتقاليد والدين والثقافة. المزايدون خطر على الأمم، لأنهم يغرقونها بالشعارات الجوفاء الفارغة من أي قيمة عملية، والتي لا تؤدي إلا إلى إغراق مجتمعهم في حالة عبثية من المزايدة والمزايدة المضادة، لأن الحقائق بالنسبة لهم هي مجرد شعارات، أما الواقع فلا وجود له، ولا وزن له. الأهم هو الشعار حتى وإن كان الواقع على العكس تماماً منه، هي حالة من العمى والاستعماء عن حقائق الواقع، مهما كانت ناصعة وجلية للعيان. ولقد عانت الأمة العربية طوال عقود في النصف الثاني من القرن العشرين من هذا النوع من المزايدات، في ظل شعارات رنانة طنانة قومية واشتراكية ووحدوية، والواقع كان واقع تمزق وصراعات وتفكك وتخلف وفقر واستبداد؛ فالمجتمعات التي رفعت شعار "حرية - اشتراكية - وحدة" لم يكن حال الإنسان فيها يعرف معنى للحرية ولا يتذوق طعم الاشتراكية، ولا يرى طريقة للوحدة مع إخوانه في الجوار، وهذه الشعارات على الرغم من أنها قيم لا يستطيع أن يرفضها أحد، إلا أن كونها شعاراً أجوف، تحولت إلى مادة للمزايدة ووسيلة للتفكيك وأداة لترسيخ التخلف والاستبداد، لأن المزايدين من طبيعتهم تحويل الإيجابيات إلى سلبيات لأنهم عادة ما يتهمون الآخرين في دينهم وقوميتهم ووطنيتهم وإخلاصهم، ومن ثم يبذرون الشقاق والصراع، ويحبطون روح المبادرة ويعطلون طاقات الإنجاز. وقد ابتليت أمتنا بأجيال متعاقبة من المزايدين الذين يتمتعون بالقعود في أماكنهم ويرفضون أن يتحرك غيرهم، أو أن ينجز غيرهم، فهم سدنة التخلف والركود وحراسه، والمحافظون عليه بأرواحهم، لأنهم يقاتلون في سبيل استمراره ودوامه إلى أبد الآبدين، فإذا كانوا يهاجمون كل مبادر وكل منجز في دينه أو في قيمه أو في انتمائه، فهم أعداء لأي إنجاز أو تقدم. وخطورة هذه العقلية أنها تحتقر الآخرين، وترى أنهم أقل وأدنى، وأنهم غير قادرين على التفكير الحر المستقل، وغير مؤهلين لاتخاذ قرارهم بأنفسهم، وإنما لابد أن يكون هناك من يقرر لهم ويشكل مستقبلهم ويحدد مصيرهم. وهذه الرؤية المتعالية على الآخرين تنطلق من نفوس طبعت بالغرور والكبر والتعالي، وهي صفات لا يمكن لصاحبها أن يرى رؤية مبصرة للواقع، ولا تمكن صاحبها أيضاً من العدل في القول أو الموضوعية في الحكم. وهنا يكمن خطر المزايدين وخطورتهم، وهي أنهم غير قادرين على رؤية قصورهم، وغير راغبين في انتقاد ذواتهم، وغير متسامحين مع من يخالفهم، وهذه صفة تشكل عقولاً أخطر على مجتمعاتها من أي شيء آخر. المزايدون يرون دائماً نصف الكوب الذي يريدون أن يروه، فإذا كان هناك نقد لنظام تعليمي في دولة متقدمة كبريطانيا أو الولايات المتحدة أو اليابان، نجدهم يهللون ويفرحون ويقولون: انظروا إنهم فاشلون ضائعون تغرقهم المشاكل، أما نحن فحالنا على أحسن ما يكون وأفضل مما يتصورون. وقد نسوا أن أولئك الذين انتقدوا نظمهم يتمتعون بروح المراجعة والمحاسبة، ويملكون أدوات النقد الذاتي والتصحيح؛ ومن ثم فهم يكشفون عيوبهم، لا لأنهم لديهم فقط عيوب، ولكن لأنهم واثقون بأنفسهم، قادرون على تصحيح تجاربهم وتجاوز أخطائهم. أما الذين يرون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فهم على العكس من ذلك، لم يراجعوا أنفسهم ولم يكتشفوا عيوبهم ولم ينقدوا ذواتهم؛ ولذلك يبدو أمرهم وكأنه صحيح صحة مطلقة، والحقيقة أنه على العكس من ذلك تماماً. والمزايدون كذلك فيهم من طباع المتسول المتعالي على الآخرين، فهم يعيشون عالة على الأمم، يستهلكون منتجاتها ويستخدمون أدواتها ويعيشون على نظمها، وفي نفس الوقت يلعنونها ويحاربونها ويتعالون عليها، وليس هذا هو منطق العقل. والمزايدون يجهلون سنة التاريخ، وهي أن الله سبحانه إنما سخر الكون لمن يستطيع أن يدرك قوانينه، ويسر المخلوقات لمن يستطيع أن يستخدمها، ولم يجعل هذا الكون للعاطلين المتقاعسين الجاهلين المتكبرين، ومن أراد أن يكون في موقع الحكم على العالمين، لابد أن يكون في موقع النفع للعالمين، لابد أن يدرك قوانين الكون ويسخرها لخدمة بني الإنسان، حتى تكون له شرعية الحكم على أفعال الناس. وهنا لم يعط الله للمسلم حتى وإن وصل إلى هذه المرتبة حق الحكم على الناس، حيث خاطب سبحانه رسوله الكريم قائلاً: (فذكِّر إنما أنت مُذكِّر، لست عليهم بمسيطر). فمتى يفيق المزايدون؟ ومتى نراهم في موقع الفعل لا الكلام؟ وفي صفوف الإنجاز لا في طوابير الركون والخمول والكسل؟!