عرف علم المنطق مفهوم «الخلاف» ببساطة فحواها أن عدم الاتفاق، أقصر مسافة بين فكرين. وعدم الاتفاق، ضرورة بشرية بالفطرة، وهي بحد ذاتها مفهوم ذو حدين، فإما أن يتم الانطلاق من «الخلافات» إلى جدلية للوصول إلى نقاط اتفاق، وهذه عملية صحية تنتج أفكاراً جديدة تفتح آفاقاً غير محدودة، أو يتم العكس، فيتعسكر أصحاب الأفكار خلف متاريس ضيقة من التعصب، وهذا يفضي إلى إلغاء «الآخر» وشطبه ويفتح آفاقاً على الجحيم.

في التاريخ الإسلامي أنموذج مستنير رواه التاريخ كثيراً، وهو أنموذج ملك الحبشة «النجاشي»، والذي جاءه المسلمون في بداية الدعوة لاجئين إليه من «اضطهاد» متعصبي قريش، الذين رفضوا الاتفاق مع الفكر الجديد، وتعصبوا إلى درجة الوصول إلى قرار بإلغاء «الآخرين» وتصفيتهم، وعند النجاشي، كان المثال في القبول والاحتواء، ولكن الأكثر تجلياً في الحكاية هو الجدلية التي جرت أحداثها أمام النجاشي، رجل المنطق والمستنير بقوة العقل لا قوة السيف والبطش، وهو القادر حينها على البطش.

إن مشكلة العالم في زماننا هي غياب العقل في المجادلة، واستخدام «الدين» في فرض الرأي، ليخرج الرأي من خانة «الآراء» ويدخل بقدرة متعصبين إلى خانة «المقدس»، ومن يخالف هذا المقدس جاز إهدار دمه، باسم الله المنزه عما يصفون ويحكمون.

هذا التعصب المأفون، لا يقتصر استغلاله على الدين الإسلامي وحسب، بل هو مشاع في كل الأديان والمعتقدات، ففي كل دين، هنالك فئة تسترزق منه وقوام حياتها قائم على تقوية نفوذها فيه بسلطة خفية، ويرتقي رجل الدين في نظر أتباعه من المتعصبين إلى شبه نبي، وناطق باسم السماء، ولا يعلن أنه موحى إليه، لكنه يوحي إلى أتباعه المتعصبين (وقد غاب العقل عنهم) أنه لا ينطق عن الهوى، ومن يستخدم عقله والمنطق السليم في حضرة «المقدس» فقد خرج عن الملة، وجاز إلغاؤه.

المشترك بين المتطرفين ممن استهوتهم لعبة الخروج عن المنطق، أنهم متخمون بمركبات النقص، وعقد التفوق المفقودة لديهم في عالم الواقع الذي يعيشونه، فالنكرة الذي يفشل في إثبات وجوده في الواقع، يصبح بطلاً باسم حركي وكنية مستلهمة من التراث في عالم افتراضي، وطبعاً تحت اسمه الحركي الجديد، الذي وجد فيه شخصية جديدة يعيشها تعوض النقص لديه، فيختال في عالمه الافتراضي، وتبدأ المشكلة باختفاء الفوارق بين الحقيقة والخيال، ويصبح غسيل الدماغ حينها عملية تنتج التطرف الأعمى.

في عوالم الإنترنت المخفية، وفي كهوف معتمة، هنالك ساحات معارك تخلق بطولات ممسوخة بكل اللغات وباسم كل الأديان. عالمنا العربي تحديداً، بحاجة إلى ثورة وعي غير مسبوقة، ثورة تعصف بكل التعصب وتفجر منابعه التي يغذيها الفقر والقهر والبؤس فينفذ منها حراس العتمة والجهل لاستنبات مشاتل التطرف التي سرعان ما تنمو وتتحول إلى غابات كثيفة ومتشابكة.

ثورة بيضاء من غير سوء عنوانها الوعي بالعلم والمعرفة وجوهرها الإنسان نفسه بلا أي هويات تطغى على إنسانيته نفسها. التعصب قد يمكن الوقوف أمامه وتصديه بالسلاح كحالة دفاع، لكن اجتثاثه لا يكون إلا بنشر الوعي، فالعتمة تنتهي فوراً حين تشعل شمعة.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.