في الرابع من شهر مارس 2018، تم العثور على الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال وابنته يوليا مسمَّمين في سولزبري، بإنجلترا. كلاهما تعافيا الآن، لكن فقط بعد أشهر من الرعاية الصحية المكثفة. وقد خلص التحقيق إلى أنهما كانا ضحيتي هجوم كيماوي استخدمت فيه مادة تسمى «نوفيشوك». وقالت الاستخبارات البريطانية إن الهجوم يحمل بصمات أجهزة الاستخبارات الروسية، وإن سكريبل استُهدف بسبب خيانته السابقة عندما اكتُشف أنه عميل مزدوج يعمل أيضاً لحساب الاستخبارات البريطانية.
وكان سكريبال قد أُفرج عنه من سجن روسي في عام 2010، في إطار «تبادل جواسيس» مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة. ثم استقر في سولزبري حيث عاش حياة هادئة، إلى أن تعرّض للتسميم في مارس الماضي. ورداً على هذا الهجوم، حمّلت بريطانيا روسيا المسؤولية وطردت 23 دبلوماسياً روسياً، كما فرضت عدداً من التدابير الانتقامية والعقابية الأخرى ضد روسيا، مثل تعليق اتصالات رفيعة المستوى مع المسؤولين الروس.
وفي الخامس من سبتمبر، أعلنت بريطانيا عن هويتي مواطنين روسيين، هما ألكسندر بيتروف وروسلان بوشيروف، باعتبارهما منفذي الهجوم. وأفرجت السلطات عن عرض مفصل لتحركات الرجلين اللذين صوّرتهما كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان عبر إنجلترا. ويذكر هنا أن التقديرات تشير إلى أن لدى بريطانيا نحو 5 ملايين كاميرا تراقب الفضاءات العامة، وهو أكبر عدد مقارنة مع عدد السكان في العالم.
وقد شمل ملخص تحركات بيتروف وبوشيروف في مارس الماضي خطوطَ زمن دقيقة لتنقلاتهما، مشفوعة بصور للحظات وصولهما ومغادرتهما المطارات ومحطات القطار البريطانية، إضافة إلى موقع فندق من صنف نجمتين في شرق لندن، حيث أقاما خلال فترة وجودهما في المملكة المتحدة. إعلان أنشطة الرجلين الروسيين والصور المنشورة لوجهيهما، كل ذلك شوهد عبر العالم. وفي غضون أيام قليلة، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً أن الرجلين مواطنان روسيان عاديان لا علاقة لهما بأجهزة الاستخبارات مطلقاً.
واللافت في الأمر هو أن الرجلين ظهرا على التلفزيون الروسي وحاولا تفسير نشاطاتهما في إنجلترا. أجل، لقد كانا في سولزبري في مارس الماضي بالفعل، لكن الهدف من مجيئهما إلى هناك كان زيارة الكاتدرائية الشهيرة، إضافة إلى زيارة الآثار القديمة في ستونهينج، وليس محاولة قتل سكريبال. واشتكى الرجلان من أن الثلج الكثير أرغمهما على تغيير مخططاتهما بشأن زيارة ستونهينج، ولهذا توجها مباشرة إلى مطار هيثرو للعودة إلى موسكو بعد أن انتهيا من زيارة الكاتدرائية.
كانت قصة الرجلين الروسيين جداً منافية للعقل، لدرجة أن المرء يمكن أن يصل إلى أحد استنتاجين. الخبر السار هو أن أجهزة الاستخبارات الروسية كانت عديمة الكفاءة لدرجة أنها لم تدرك أن احتمالات رصدها كانت مرتفعة للغاية. والخبر غير السار هو أن هذه الواقعة أظهرت شخصية بوتين وتصميمه على التخلص من كل الأعداء، حتى أولئك الذين يعيشون في بلدان أجنبية. بعبارة أخرى، إن الرسالة التي تريد روسيا أن تبعث بها لخصومها، وخاصة من المواطنين الروس المعارضين لنظام الحكم الحالي، هي أننا سنلاحقكم وسنصل إليكم بغض النظر عن المكان الذي توجدون فيه ومدى الأمان الذي تعتقدون أنكم تتمتعون به.
قضية سكريبال يجب النظر إليها في السياق الأوسع للتدخل الروسي المتعمد في السياسة الداخلية للعديد من البلدان، بما في ذلك الديمقراطيات الغربية التي يَعتبر بوتين سلوكها وأيديولوجيتها معادية لمصالح الاستراتيجية الروسية. فالجهود الروسية الرامية للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016 تمثّل حالة قصوى، لكن تدخلات مماثلة عبر أوروبا الغربية، ودول البلطيق، وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق (مثل جورجيا وأوكرانيا) تمثل نماذج أخرى بارزة في هذا الخصوص.
والمثير للسخرية حقاً هو أن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية هما المكانان المفضلان لدى معظم الأولغارشيين الروس، والذين صنعوا ثرواتهم في عهد بوتين، كي يرسلوا إليه أبناءهم من أجل الدراسة واستثمار أموالهم في العقارات.
ومن الواضح الآن أن مواصلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التقليل من شأن السلوكات الروسية الضارة، لاسيما بخصوص غسيل الأموال والتدخل في الانتخابات، لن يؤدي إلا إلى زيادة الشكوك والاشتباه في أن علاقاته التجارية مع روسيا غامضة للغاية، وتُعتبر أحد المواضيع الرئيسية التي من المؤمل أن يسلّط عليها المحقق الخاص روبرت مويلر الضوء في التحقيق المتواصل في السلوك الروسي منذ عام 2016 وحتى اليوم.