الاستشراق هو دراسة الغرب للشرق وتحويل حضارات الشرق إلى موضوعات للدراسة، وخلق فروع جديدة لمعرفة الحضارات اللاغربية، مثل الصينيات والهنديات والإسلاميات والإيرانيات والمصريات. وقد كثرت الدراسات الاستشراقية وتنوعت أحكامها. وبعد حركات التحرر الوطني ونشأة جيل من الباحثين الوطنيين المستقلين عن الغرب والمنتسبين إلى حضاراتهم المدروسة، بدأت مراجعة أحكام الاستشراق الغربي من أجل تصحيحها والكشف عن أهدافها ومناهجها ومَواطن قصورها.
والاستشراق بنية واحدة في رؤيته للعالم وفي مناهجه، وربما في أحكامه ونتائجه أيضاً، بصرف النظر عن ميادين تطبيقاتها، وهو أكثر ظهوراً في موضوعات العقيدة والشريعة والفلسفة والتصوف، أي العلوم العقلية والنقلية الأربعة. كما هو ظاهر أيضاً في القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، أي العلوم النقلية الخمسة. وهو أقل ظهوراً في العلوم العقلية الرياضية (مثل الحساب والجبر والهندسة والفلك)، والعلوم الطبيعية (مثل الطب والصيدلة والكيمياء والنبات والحيوان)، والعلوم الإنسانية (مثل اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ). فهذه العلوم «المضبوطة» لا تسمح كثيراً بظهور الدوافع الاستشراقية التي تظهر بسهولة أكثر في العلوم النقلية العقلية أو العلوم النقلية البحت، حتى يستأثر بها الغرب ويصبح هو وحده واضع العلوم الرياضية والطبيعية، وإن كانت لها جذورها عند اليونان والرومان. هناك إذن علوم كاشفة للاستشراق أكثر من غيرها، وهي العلوم التي كثرت الدراسات العربية حولها ضد الاستشراق، لأنها تمس جوهر الدين (عقيدة وشريعة).
الاستشراق له رؤية موحدة بصرف النظر عن ميادين المعرفة، الفلسفة والاجتماع، السياسة والاقتصاد والتاريخ والتراث والنهضة. وله ردود أفعال واحدة بالنسبة لموقف الغرب من الشعوب المستعمَرة، وموقف هذه الشعوب منه بعد حركات التحرر الوطني وبداية البحوث والدراسات الوطنية.
وتختلف أوطان الاستشراق، ويأتي في مقدمته الاستشراق الألماني، ثم الهولندي، ثم الفرنسي، ثم الإسباني فالإيطالي فالبريطاني فالمجري فالروسي.. ولكلٍ ظروفه. الاستشراق الألماني تسوده النزعة التاريخية التي عرفتها ألمانيا في القرن الـ19 رغم أنه لم تكن لها مستعمرات في أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، باستثناء واحدة في أفريقيا سرعان ما فقدتها. كما يسوده علم اللسانيات نظراً لتقدمه في ألمانيا من منظور تاريخي كذلك. كما تغلب عليه العلوم النقلية والنقلية العقلية نظراً لاهتمامه بتاريخ الأديان ونشأة الدين. ويشاركه في ذلك الاستشراق الهولندي. أما الاستشراق الفرنسي فتغلب عليه الدراسات الميدانية نظراً لاتساع نطاق مستعمراته، خاصة في شمال أفريقيا وفي وسطها وفي جزر أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. وقد قدَّم دراسات «أنثروبولوجية» عن لغات وتقاليد وعقائد السكان حتى يعرف كيفية السيطرة عليهم. وتبعه في ذلك الاستشراق الإسباني والإيطالي، نظراً لاتساع رقعة مستعمرات إسبانيا في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا ومستعمرات إيطاليا في شمال أفريقيا وشرقها. أما الاستشراق البريطاني والروسي، ومعه الاستشراق السلافي في أوروبا الشرقية (خاصة المجر)، فكان وثيق الصلة بالدولة العثمانية وممتلكاتها، سواء في أواسط آسيا أو في أوروبا الشرقية بالنسبة لروسيا، أو في العالم العربي وأفريقيا (وسطاً وجنوباً)، أو في جنوب شرق آسيا (الهند وماليزيا) بالنسبة لبريطانيا.
وبعد أن أصبح لكل دولة نشاطها الاستشراقي، خاصة فرنسا وألمانيا، أصبح الاستشراق موضوعاً لدراسة العرب الباحثين بعد نشأة الجامعات الوطنية، ومن هنا بدأ توضيح الصلات بين الشرق العربي والغرب الأوروبي.
وترصد المادة العلمية للاستشراق: المخطوطات، وتعليم اللغات، وأنواع الدراسات ونشاط المستشرقين وأعلامهم.
وقد تتخصص الدراسات الاستشراقية حول الأدب العربي وحده كنوع من حوار الحضارات بين الشرق والغرب، ومن ذلك «رؤية فرنسية للأدب العربي» و«الاستشراق الفرنسي والأدب العربي». والأخيرة تتبع صلة فرنسا بالمشرق وبداية الاستشراق والتعريب. كما تعرض لثلاثة من المستشرقين الفرنسيين، خاصة لويس ماسنيون وجهوده في الفكر الفلسفي الإسلامي. فبعد مقدمة عامة عن جذور الاستشراق الأوروبي، تعرض حياة ماسنيون وعصره والجوانب اللاهوتية في رؤيته للإسلام. كما تقرأ أعماله قراءة معاصرة في استشراق متجدد. وكان التركيز على بيئته وعلاقته بالحلاج والتصوف الإسلامي القديم أو المعاصر، ودراسته للآثار، ودوره في مجمع اللغة العربية، والحوار بين الأديان، وأصداء أعماله بعد وفاته.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة