تعني المعوقات الأيديولوجية انتساب الجامعة إلى مذهب سياسي مسبق طبقاً لنوع نظام الحكم، ماركسياً كان أو قومياً. فالجامعات الروسية وفي الكتلة الاشتراكية في عصر الاستقطاب كانت تحمي حمى العقيدة الماركسية والمادية الجدلية. مهمتها الجدل ضد الخصوم وبيان صحة المذاهب المختارة. فوقعت فيما وقع فيه اللاهوتيون من قبل، كاثوليك وبروتستانت وأرثوذوكس. كما اختارت بعض الجامعات العربية الدفاع عن الإسلام مذهباً وعقيدة أو القومية فكراً وممارسة. والتبشير غير التفكير. والوعظ السياسي مثل الوعظ الديني. في هذه الحالة تتحول الجامعة من مركز للبحث العلمي إلى هيئة للوعظ والإرشاد.
تتطلب حرية البحث العلمي واقعاً مجرداً من أي غطاء نظري حتى يمكن التساؤل حوله ووضع افتراضات بديلة لتفسيره بدلاً من الأغطية القديمة. يبدأ البحث العلمي عندما يحدث سقوط معرفي بين الأنا والعالم. ويبدأ السؤال قبل الجواب. ونحن نعيش في واقع مغطى معرفياً. الإجابة جاهزة قبل السؤال، مع أن الفكر الحر يبدأ كله من أسئلة ثلاثة: من أنا؟ من أين أتيت؟ ما طبيعة العالم الذي أعيش فيه؟ يبدأ البحث العلمي من الشك وليس من اليقين، من النفي قبل الإثبات، ومن الهدم قبل البناء. لذلك كتب كانط «المقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علماً» للإجابة على أسئلة ثلاثة: ماذا يجب عليّ أن أعرف؟ وأجاب عنه في «نقد العقل النظري»، ماذا يجب عليّ أن أعمل؟ وأجاب عنه في «نقد العقل العلمي»، ماذا يجب عليّ أن آمل؟ وأجاب عنه في «نقد ملكة الحكم». وبدأت العصور الحديثة بالشك في الموروث. وكتب في ذلك مونتاني «المحاولات». وجعل كانط مهمة الفكر النقد ضد القطعية. وظل الغرب يزهو على غيره من الحضارات أنه هو الذي وضع أسس المنهج النقدي. ومن ولعه بالنقد، نقد النقد.
مازال يغلب على جامعاتنا نقل العلم، من القدماء أو من المحدثين من الموروث القديم أو من الوافد الحديث. فأصبح الأستاذ حامل بضاعة وليس منتجها، ناقل علم وليس مُبدعه. مهمته النقل وليس الإبداع، التحصيل وليس المشاركة، الحفظ بالذاكرة وليس اكتشاف ما لم يُدون بعد. لذلك اتهمت الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة كتاب استئنافاً للكاتب القديم الجالس القرفصاء والكتّاب الحديث والجلوس في الرواق أو سانداً الظهر على العامود. وكان من ألقاب القدماء «الحافظ» بجوار العالم. والنقل لا يتطلب حرية للتفكير بل دقة في النقل. بل إنه يمنع من التفكير لأن الغاية أداء الأمانة عبر الأجيال من دون قراءة أو تأويل.
وإذا تجرأ العالم وسار خطوة أبعد فإنه يقوم بالتعليق والشرح والحاشية والتخريج مستنداً إلى نص مركزي تكلس في التاريخ حتى تحول إلى مقدس. وإذا خرج أستاذ من النقل إلى الإبداع اتهم بالخروج والعقوق وعدم احترام المقدسات وحب الظهور والأنانية والنرجسية وخدش الحياء العام وما استقر عليه العرف بل والخروج على النظام وإعلان العصيان.
القضية هنا ليست أزمة الحريات الأكاديمية ومعوقاتها بل غيابها كلية من الأساس. فالعلم لا يتطلب حرية التفكير بل صحة الأداء والصدق ليس مع النفس أو مع الواقع بل في الرواية والنقل، من فم المتكلم إلى أذن السامع. ولا يتطلب الحفظ الحرية بل الاستيعاب.
*أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة