هذا الموضوع ليس فقط موضوعاً إحصائياً استبيانياً يمكن التعرف عليه عن طريق مناهج العلوم الاجتماعية ودراسات الحالات وبكل وسائل «التجريب» الممكنة، إذ تعطي هذه المناهج نتائج لا تكون دالة إلا إذا كانت تصديقاً لافتراضات سابقة تقوم على التجارب المعاشة لأساتذة الجامعات الذين عانوا من غياب هذه الحريات الأكاديمية. لذلك كان منهج الملاحظة في العمق والمشاركة وهو ما سماه الفلاسفة «الظاهريات» أي تحليل التجارب الشعورية لاقتناص دلالتها هو أنسب المناهج للتعرف على معوقات الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية. فالجامعات العربية جزء من الوطن العربي. وهذا لا يعني الإقلال من شأن الدراسات العلمية في الموضوع، أبحاث مستقلة أو رسائل علمية لنيل الشهادات وأعلى الدرجات. فالنتائج التجريبية تصديق لافتراضات علمية تقوم على ملاحظات مبدئية يسميها الفلاسفة حدوسا ودلالات لتجارب معاشة. وقد أصبح المنهج «الظاهرياتي» أحد المناهج في البحوث الاجتماعية.

والبحوث التأملية الخالصة التي تدعو إلى التفكير والمشاركة لا تقل أهمية عن البحوث التجريبية الإحصائية ودراسة الحالة. إذ أنها تدفع إلى التفكير في المعاني والدلالات التي يعيشها الجميع، الكاتب والقارئ، الباحث والمبحوث، الذات والموضوع. كما تساعد على القراءة الكيفية للمادة الكمية. وكثير من الاكتشافات إنما تمت بمناهج تأملية. وهي أيضاً من العلامات الفارقة في تاريخ الحضارات مثل «تأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت في بداية العصور الحديثة، و»تأملات ديكارتية» لهوسرل في نهاياتها.
والأسلوب البسيط الواضح باللغة العادية أفضل من الأسلوب المعقد المليء بالمصطلحات بدعوى العلم والعلمية. وكشف الموضوع بالأسلوب المباشر أفضل من تغطيته والتعمية عليه. مهمة العلم في النهاية رؤية الحقائق ذاتها بأفضل الأساليب وأوضحها. وبساطة الحدس خير من صياغات العقل، والرؤية المباشرة للموضوع أفضل من تغليفه والالتفاف عليه.
وموضوع الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية جزء من قضية أعم وهي الحريات في الوطن العربي. فالحريات الأكاديمية جزء من قضية الحريات العامة. ولا توجد حريات أكاديمية دون حريات عامة، ولا توجد جامعات حرة إلا في وطن حر.
والتفكير سلباً في المجتمع العربي يكون أكثر إضاءة من التفكير إيجاباً. ويعني التفكير السلبي البحث عن معوقات الحرية في الوطن العربي قبل البحث عن مكوناتها. وتعني معوقات الحرية غياب الشروط الضرورية التي تتوافر من أجل ممارسة الحرية. وقد تكون أحد أسباب الأزمة الراهنة في الوطن العربي منذ فجر النهضة العربي الأول هو التفكير إيجاباً قبل التفكير سلباً، والبحث عن حلول جاهزة قبل تمهيد الأرض للغرس الجديد، واختيار الحلول قبل تشخيص المشكلات. فقد بدأنا بناء الدول الوطنية دون تمهيد بالبحث عن مفاهيم الدولة والوطن في ثقافة عرفت الأمة، ولم تعرف مفاهيم الدولة الوطنية ولا الدولة القومية. وولاء الناس في الأعماق للأمة أكثر من ولائهم للدولة الوطنية أو القومية. وحاولنا الدفاع عن الاستقلال الوطني على كل المستويات، السياسي والاقتصادي والفكري، في ظل ثقافة غاب عنها مفهوم الاستقلال لصالح مفهوم التبعية. فالإنسان تابع، والطبيعة تابعة، والتاريخ تابع لإرادة خارجية تسيطر على كل شيء، الإنسان والطبيعة والتاريخ. ونبحث عن الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية ومفهوم الحرية بمعنى الاستقلال الذاتي والحق الطبيعي في التفكير المستقل، وحق الاختلاف، والتعددية الفكرية غير وارد في الثقافة الموروثة التي تقوم على أحادية الطرف، والفرقة الناجية، واستبعاد الفرق الهالكة، وإقصاء الرأي الآخر. الحق في رأي واحد وباقي الآراء باطلة. والصواب رأي واحد، وباقي الاجتهادات ضالة هالكة. البحث إذن عن المعوقات سابق على البحث عن المكونات. إذا حضرت الشروط حضر المشروط. وإذا توافرت الظروف نبتت الظاهرة. والبحث عن أسباب الغياب هو تعرف على شروط الحضور.
وهناك عدة معوقات أمام الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية. وهي معوقات ثقافية وسياسية وأيديولوجية وإدارية ومهنية. تتفاعل فيما بينها. ويقوي كل منها الآخر فتحدث الأزمة. ويكون السؤال: من أين نبدأ؟ وكل معوق له حل. فقد مرت شعوب بنفس الفترة التاريخية التي نمر بها، ثم استطاعت الدفاع عن الحريات الأكاديمية داخل الجامعات وخارجها على مستوى الحريات العامة في البلاد.

*أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة