أزمة الكتاب العربي ليست أزمة نشر بل أزمة مضمون. وتكشف أزمة المضمون عن أزمة وعي تاريخي، إذ لا يستطيع العربي كاتباً أو قارئاً، أن يجيب على سؤال: في أي مرحلة من التاريخ أنا أعيش؟ فمن الصعب تشخيص طبيعة المرحلة الراهنة. ثورة أم ثورة مضادة؟ نهضة أم سقوط؟ إصلاح أم كبوة؟ تجديد أم تقليد؟ انفتاح على العالم أم انغلاق على النفس؟ إرهاصات أم إفلاس؟ القديم لم ينته بعد. والجديد لم يبدأ بعد. المرحلة الراهنة مرحلة مخاض أن تتم بعد التخصيب. والولادة قادمة، حتى ولو كانت حنينا إلى الماضي، العشرينيات والثلاثينيات في العصر الليبرالي، أو إلى الخمسينيات والستينيات في العصر القومي. وقد يكون الحنين إلى أبعد من ذلك إلى الإسلام في عصر النبوة والصحابة والتابعين. وقد يكون الحنين إلى الشاطئ الآخر إلى العصر الاشتراكي الأممي في العشرينيات في الثورة البلشفية. وقد بدأت بعض الطيور المهاجرة في العودة إلى الأوطان. وتجاوز الوعي العربي حالة الإحباط واليأس وربما الموت غماً وكمداً كما حدث لبعض الشعراء.
أزمة الكتاب هي أزمة كتّاب قبل أن تكون أزمة قراءة أو أمية. والكتاب كتابة وقراءة قبل أن يكون حرفة أو صناعة. والمضمون يفرض نفسه على التوزيع. الكتاب أزمة عصر ومرحلة تاريخية. يعبر عن الحالة الراهنة للوعي الحضاري ومساره في التاريخ.
العزوف عن القراءة مثل العزوف عن الانتخابات، والعزوف عن المشاركة في الحياة العامة. هناك انسداد تاريخي في الوطن العربي. المياه محجوزة وراء السدود. ومع ذلك توزع المنشورات والبيانات بالآلاف. كما تعددت الكتابات البديلة، والكتابات تحت الأرض. ومع ذلك تحول القراء إلى مستمعين ومشاهدين لملايين الأشرطة للمغنية الشابة وللفيديو كليب ولكرة القدم وللدعاة الدينين الجدد صناع الحياة بالحديث عن الجنس والحب والزواج. أزمة الكتاب هي أزمة عصر. وأزمة العصر هي أزمة قيم، وأزمة القيم ناشئة من طبيعة المجتمعات في مراحل التحول التاريخي.
إن دور النشر ليست فقط مكاناً لصناعة الكتاب بل هي مراكز للبحث العلمي والتخطيط الثقافي. ليست مجرد أداة نشر وطباعة التوزيع بل رؤية ثقافية تعبر عن وعي حضاري. وليست فقط لجان قراءة أو مراجعة من مختصين، بل هي جزء من حركة مجتمع ومسار تاريخ. تشارك في الحياة الثقافية بالتخطيط والتشخيص وتقسيم العمل وإقامة الندوات والمؤتمرات وحلقات البحث المتخصصة وطبعها وتوزيعها وتطوير مردودها. وتستطيع أن تؤدي دورها نظراً لاستقلالها التام أكثر مما تقوم به المؤسسات الثقافية الرسمية والأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني.
لا تقوم على نشر الموروث القديم فقط أو ترجمة الوافد الجديد فقط بل على إحداث التفاعل بينهما في الواقع. حينئذ يصب الماضي والمستقبل في الحاضر، ويفك العرب عن أنفسهم حصار الزمن. لذلك سمت نفسها إحدى دور النشر الرائدة «اللجنة المصرية للتأليف والترجمة والنشر». النشر من القديم، والترجمة من الجديد، والتأليف تفاعل القديم والجديد في اللحظة الراهنة. لا تكون الثقافة عرجاء تسير على قدم واحدة، والموروث القديم وحده أو الوافد الجديد وحده، ولا تكون مجرد خطابة سياسية أو تعبيرات أدبية بل صياغات فكرية وتأصيلات نظرية.
وقد بدأت الإرهاصات في بعض الكتابات الأصلية مثل المشاريع العربية المعاصرة وتبنى دور النشر لها، وتأسيس بعض السلاسل الثقافية والعلمية مثل «عالم المعرفة» و«مكتبة الأسرة» و«كتاب في جريدة». هي إرهاصات جديدة في الثقافة العربية في مرحلة ركود عامة وهي مرحلة ترقب وانتظار. هناك ملل من استمرار الحالة الراهنة، وتململ من الأوضاع الراهنة. ربما تكون المرحلة التي بدأت في الخمسينيات بالثورات العربية على وشك الانتهاء. فقد بدأ مسار الوعي العربي الحديث من المفكرين الأحرار في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى الضباط الأحرار في النصف الثاني من القرن العشرين متجهاً إلى عصر المواطن الحر والشعوب الحرة في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين. وتلك المسؤولية مسؤولية الناشر العربي في دفع حركة التاريخ.
*أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة