هل العالم مقبل على معركة عالمية في ساحة لم تشهد أي نوع من الحروب من قبل؟ يمكن أن يكون كذلك بالفعل، فيما البقعة المرشحة لذلك هي القطب الشمالي. قبل بضعة أيام أعلن وزير الدفاع الأميركي «جيمس ماتيس» عن حتمية قيام الولايات المتحدة الأميركية بنقل اللعبة في القطب الشمالي –على حد تعبيره– إلى مستوى جديد، وعلى وجه الخصوص زيادة خفر السواحل. فما الذي يجعل تلك المنطقة الجليدية مثار صراع بين الأقطاب الدولية، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة وروسيا، عطفاً على عدد آخر من الدول الاسكندنافية كالدنمارك؟ بدايةً، وفي تبسيط غير مخل، نشير إلى أنه تحت جليد ذلك القطب توجد ثروات طبيعية مغرية جداً للتنافس، خذ على سبيل المثال ما أشارت إليه دائرة المسح الجيولوجي الأميركية عام 2000 في تقرير لها، من أن 25% من الاحتياطيات النفطية، ناهيك عن ثروات أخرى كالذهب وبقية المعادن النفيسة، عطفاً على مخزونات خيالية من الغاز الطبيعي.. كلها قابعة هناك. والمعروف بحسب اتفاقيات الأمم المتحدة وقوانين البحار، أن أي دولة تمتلك حقوقاً اقتصادية حصرية في ثروات المياه التي تمتد على مسافة 370 كيلو متراً من شواطئها، ويمكن للدولة تمديدها إلى 647.5 كيلو متر، وفقاً لامتداد ركامها الساحلي. غير أن القوى الكبرى لا تقيم وزناً لتلك الاتفاقات، ما يجعل من إمكانية التصادم أمراً وارداً جداً. على أنه، وفي الوقت الذي كان فيه «ماتيس» يلفت الانتباه إلى المعركة القطبية الجاري الاستعداد لها، كان نائب رئيس الوزراء الروسي «يوري بوريسف» يصرح بأن بلاده تسعى لبناء كاسحتي جليد نوويتين في «مصنع البلطيق» كي تنضما إلى الكاسحات الثلاث التي يجري بناؤها حالياً، لتكون بذلك لدى روسيا في نهاية المطاف خمس كاسحات جليد تستعد لتؤمِّن لموسكو الدور القيادي والريادي في منطقة القطب الشمالي. وهل كان للروس أن ينفقوا تلك الأموال الباهظة، وفي ظل أوضاعهم الاقتصادية الحالية، وتحت ضغوط العقوبات التي أوقعتها عليهم أميركا والاتحاد الأوروبي منذ ضم القرم، إلا إذا كان لديهم يقين مطلق بالمردود الهائل الذي يتجاوز هذا الإنفاق الضخم؟ وما تزال الولايات المتحدة تتطلع لجعل العالم في القرن الحادي والعشرين، مصبوغاً بصبغة أميركية خالصة، تلك الخطة التي حفر أبجدياتها «المحافظون الجدد» في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وفي هذا السياق، تحاول أميركا السيطرة على سوق الطاقة العالمي، لكن مشروعاً بعينه بين الروس والأوروبيين بالقرب من منطقة القطب الشمالي، يكاد يذهب بأحلام ترامب أدراج الرياح، إنه مشروع «نورد ستريم–2» (السيل الشمالي-2). المشروع عبارة عن بناء خطين لأنابيب الغاز بطاقة إجمالية تبلغ 55 مليون متر مكعب من الغاز، تمر من الساحل الروسي عبر بحر البلطيق، وبالقرب من القطب الشمالي، لتصل إلى ألمانيا. هذا المشروع أيدته ألمانيا ووافقت عليه السويد وفنلندا، ومن المقرر بناء خط أنابيب جديد بجوار «تيار الشمال الحالي». المشروع تقوم عليه شركة «غاز بروم» الروسية العملاقة، ولهذا يطالب ترامب بالتوقف عن المشاركة فيه، ويهدد بفرض عقوبات على أولئك الذين لا يمتثلون لمطالباته بهذا الشأن. وفي هذا الإطار يبدو أن تدبيراً ما بين الأميركيين والدنماركيين قد جرت به المقادير في الخفاء، من أجل إعاقة المشروع الذي يعطي للروس والأوروبيين زخماً كبيراً في مواجهة عقلية «صانع الصفقات». أميركا الترامبية، تطالب حلفاءها من الدول الأوروبية بالتوقف عن المشاركة في «السيل الشمالي-2»، وتهدد بفرض عقوبات كما تفعل مع الصين، وبقية دول الاتحاد الأوروبي بهدف الترويج لصادراتها، وفي مقابل الاستغناء القسري عن الغاز الروسي، فيما يحاول ساكن البيت الأبيض الترويج للغاز الطبيعي المسال الذي تنتجه بلاده ويعرض بناء محطات لإعادة تحويل الغاز في أوروبا. ويدرك الأميركيون جيداً أن هناك ميلاً هذه الأيام من قبل الأوروبيين لتفعيل علاقاتهم مع الروس، وربما مع الصينيين، الأمر الذي يهدد بقاء حلف «الناتو» متماسكاً، كما كان الحال قبل سبعة عقود، بل أكثر من ذلك تذهب أميركا إلى التخوف من أن يكون الطرح الأوراسي للتعاون بين سكان القارتين الآسيوية والأوروبية يقترب الهوينا، ما يعجل بعزل أميركا جغرافياً وديموغرافياً. التعاون الروسي الأوروبي في بحر البلطيق، لن يلبث بشكل أو بآخر أن يتعزز في مياه وثلوج القطب الشمالي، وعلى هذا النحو تسارع واشنطن إلى عسكرة المشهد في هاتين المنطقتين، حيث تضع نحو 27 ألفا من العسكريين في آلاسكا، جاهزين للقيام بمهمات قتالية في أي وقت. وقبل نحو عامين كان وزير الدفاع الأميركي في حينه «تشاك هاجل»، يحذر كلا من روسيا والصين والدول الأخري التي لها مطالبات بحقوق في المنطقة، من توسيع استخدامها للمياه الجليدية لأجل التدريبات العسكرية أو العبور من خلالها. فهل نحن إزاء فصل جديد من فصول الصراع العالمي؟ أغلب الظن أنها صفحة من فصول الحروب المتعددة، والتي لابد أن تنطلق في الطريق لبلورة عالم جديد. كان كارل ماركس غالباً على حق حين أشار إلى أن الحروب والصراعات والعنف قابلية التاريخ من أجل ميلاد حقب جديدة، حتى ولو تضمخت الأرض والمياه والثلوج بالدم القاني.