رغم محاولات بعض الدوائر الأميركية لإلغاء، أو أقلها تأجيل، قمة هلسنكي بين الزعيمين الأميركي (دونالد ترامب) والروسي (فلاديمير بوتين)، بحجة «التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية»، رأينا كيف كان ترامب يتوق إلى الجلوس مع بوتين. القمة بحد ذاتها أثارت عدداً من التساؤلات والتوقعات، كان على رأسها: هل نشهد تفاهماً بين الرئيسين في حل بعض المعضلات الدولية، أم أن الصفقات هي الطابع الذي سيغلب على القمة التي -وإن نجحت- ستكون علامة فارقة في محاولة إعادة التوازن للنظام العالمي الذي يعيش تقلبات كبيرة منذ العودة الروسية الناجحة إلى المسرح العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؟ نعم، القمة تاريخية، وطرفاها زعيمان: الأول واثق الخطى يحقق مكاسب في عديد من بقاع العالم، والثاني يثير خصومه حوله الكثير من الجدل ويعتقدون أن يعمل بعقلية التاجر.. لكن كلاهما يحتاج للآخر. فهل الزعيمان مرشحان لإبرام صفقات وتسويات، بعضها سيخرج للعلن، وربما يبقى الآخر طي الكتمان؟ في الأدبيات السياسية المتكاثرة، ثمة ثلاثة سيناريوهات هي الأبرز: أولها كون ترامب، رافع شعار «أميركا أولاً»، والذي يحب العمل مع «الزعماء الأقوياء»، لكن على انفراد وبعيداً عن التكتلات، إذ أبدى مبكراً إعجابه بالرئيس الروسي وامتدح وطنيته وقوة روسيا، مع تجاهل تام لكل ما يقال حول انتهاك حقوق الإنسان والديمقراطية، وكذلك للتباينات الثنائية مع أوروبا بشأن ملفات العلاقة مع روسيا والحرب الأهلية سوريا وأزمة الاتفاق النووي مع إيران، وملف المفاوضات مع كوريا الشمالية. فمثل هذا السيناريو يصب في صميم التفكير الخاص بترامب («العقلية التجارية» كما يقول خصومه)، إذ هو دوماً بصدد «صفقة» تحقق له وللولايات المتحدة مكاسب مادية. وقد أبرز ترامب نفسه، عبر تصريحاته المثيرة للجدل، وجهة نظره المغايرة لحلفائه في مختلف القضايا. فاستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وتدخلاتها في أوكرانيا، وهي الإجراءات التي تسببت في فرض عقوبات دولية على روسيا، كل ذلك لم يمنعه، خلال اجتماع «السبع الكبار» في كندا، من المناداة بأن «القرم هي منطقة روسية، لأن الجميع هناك يتحدثون هذه اللغة». كما نقل عنه قوله خلال الاجتماع: «الناتو سيئ مثله مثل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)» التي سبق وعاداها الرئيس الأميركي. بل إنه صدم أصدقاء واشنطن وحلفاءها الأقربين بحديثه عن «الحاجة لوجود روسيا على مائدة القمة». وأخيراً، أعلن في قمة الحلف الأطلسي قبل حوالي الأسبوعين، بأن بوتين «أسهل» من رؤساء دول الناتو وأوروبا. وعليه، فإن هذا السيناريو يعتبر المسألة لدى ترامب مسألة نهج وعقلية. السيناريو الثاني يتحدث عن وقوع ترامب، أو بعض فريقه، في «فخ» صفقة عقدتها لجنته الانتخابية أثناء معركة الرئاسة. وحالياً، تجري في الكونغرس الأميركي تحقيقات مستقلة حول ما يوصف بـ«التدخل الروسي» في الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة، كما يجري تحقيق مماثل من قبل المدعي الخاص (روبرت مولر). وهذا السيناريو («الفخ») لا يمكن تجاهله لكثرة الأدبيات السياسية والإعلامية التي تتناوله وكأنه حقيقة. وفي هذا السياق، يتردد الحديث عن مستمسكات لدى بوتين والدولة الروسية على ترامب وعلى أعضاء فريقه الانتخابي، الأمر الذي يجعله «مستكيناً»! وهنا يجري التدليل بامتداح ترامب للرئيس الروسي كثيراً، ناهيك عن الموقف من شبه جزيرة القرم، وكأنه يدفع مقدماً لبوتين ولروسيا، أي أنه «مرتهن» لهما بشكل أو بآخر، وسط حديث عن توتر تقصَّده ترامب في العلاقات الأوروبية الأميركية عبر العديد من الملفات: الرسوم الجمركية الأميركية على السلع الأوروبية، انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، التجاهل الأميركي لتصاعد القوة العسكرية الروسية في أوروبا، والموقف من سوريا. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، «يخشى مسؤولون أوروبيون مما قد يعطيه ترامب سراً من تحت الطاولة من مكاسب للرئيس بوتين»، وبالذات في اجتماعهما الذي تم على انفراد وبعيداً عن العيون. وفي «سيناريو المؤامرة» هذا، يتجلى الافتراض بأن ترامب يريد إرضاء بوتين وروسيا، وهو يدفع لهما ثمن سكوته من خلال كل ما أشير إليه أعلاه. أما السيناريو الثالث فيرتبط بالعلاقة الخاصة جداً بين إسرائيل وإدارة الرئيس ترامب، وهو موضوع سنعالجه لاحقاً من زاوية «قمة هلسنكي» تحديداً. وعليه، ومهما كانت المحركات الظاهرة والخفية في قمة العملاقين، فإن العديد من التقييمات يتحدث عن انعدام إمكانية التوصل إلى اتفاق سحري على حل القضايا الخلافية العالقة، فهي قمة انعقدت من دون برنامج عمل واضح متفق عليه مسبقاً. وفي أحسن الأحوال، وإن حققت القمة نوعاً من «التفاهم» على عدد محدود من القضايا وليس «الاتفاق» الواضح عليها، لكنها قد تسهم في «إرخاء التوتر» السائد، ولربما المتنامي، في العلاقات الثنائية. هذه القمة، التي عقدت في وجه مقاومات شطر مهم من المؤسسة الأميركية العميقة، مرهون ارتقاؤها من حالة «إرخاء التوتر» إلى حالة «الوفاق» بمواقف المؤسسة الأميركية و«الدولة العميقة» في الولايات المتحدة، والتي ردت بغضب على أداء الرئيس فيها، وكذلك بتأثيرات تحالف اللوبي الصهيوني الذي يعيش «عصر ازدهار» غير مسبوق في ظل إدارة الرئيس ترامب. وواضح جداً أن ما قاله هذا الأخير في المؤتمر الصحفي في هلسنكي، قد أثار «عش الدبابير» في المؤسسة الأميركية العلنية والعميقة، الأمر الذي سيحد أكثر من إمكانية الارتقاء بالعلاقات الأميركية الروسية في المستقبل المنظور.