هل يستجيب الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» بعد انتصاره في انتخابات يونيو 2018 بنسبة 53%، لنصائح خصمه «محرم انجه»، مرشح الحزب «الجمهوري»، بأن يستثمر فوزه في توحيد الأتراك، وفي «أن يكون رئيساً للجميع»؟ وأن يجمع كل الخيوط والأطراف في تركيا، إن كان يريد تحويل هذه الدولة إلى قوة صناعية كبرى في العالم، كما صرح أردوغان في خطاب النصر؟ اشترك 88% من الأتراك في العملية الانتخابية، فكانت ظاهرة لا تحدث بهذه النسبة في دول كثيرة. وتعهد الرئيس المنتخب في خطاب جماهيري ألقاه فجر يوم الانتخاب والفوز، على حشد من أنصاره من شرفة المركز الرئيسي لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، «بالإسراع في تنفيذ برنامجه الذي يتضمن إصلاحات سياسية واسعة النطاق». ولاشك أن الجميع داخل تركيا وخارجها، بل وبعض المتخوفين من طموحات الرجل داخل حزبه، لا يعرفون أين ستكون «ضربته القادمة»، وما التغييرات التي قد يقترحها في قادم الأيام. وتسعى تركيا في أهداف الرئيس المعلنة، إلى تحقيق جملة أهداف بحلول عام 2023، الذي يوافق الذكرى المئوية الأولى لإعلان الجمهورية بعد قرون من نظام الخلافة. لعل من أبرزها الدخول في مصاف أكبر عشر قوى اقتصادية على المستوى العالمي، ومحاولة رفع الناتج القومي الحالي من 1.6 إلى 2 تريليون دولار، رغم ما على تركيا اليوم من ديون بالبلايين، ورغم كل مشاكل الليرة وأبواب الإنفاق الأخرى. حاول أردوغان الاستجابة لبعض نصائح الانفتاح والتعاون. وقد أكد أنه «لن يكون في مستقبل تركيا أي إقصاء أو إبعاد لأحد». وقد حظيت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا باهتمام دولي واسع، كما أعرب الاتحاد الأوروبي عن أمله في استمرار التعاون مع تركيا بقيادة رئيسها القوي، وهنأت قيادة حلف «الناتو» الشعب التركي لمشاركته الكبيرة في الانتخابات. وأضاف الأمين العام للحلف قائلاً: إن «تركيا حليف مهم جداً للناتو، ليس فقط لامتلاكها موقعاً استراتيجياً، وإنما أيضاً لدورها الحساس في مواجهة الإرهاب» [الشرق الأوسط 26-6-2018] من المستبعد أن يثق الكل بالرئيس أردوغان! فطموحه بلا حدود، وأوراقه قوية رابحة وغير مستنزفة بعد، وانتهازه للفرص ولنقاط ضعف الأطراف الأخرى من حقائق الحياة السياسية والرئاسية. والرئيس الذي يتعهد بعدم إقصاء أحد بعد اليوم يشن منذ 2016 حرباً لا هوادة فيها على الداعية الإسلامية «فتح الله غولن»، حتى ملأ السجون بأنصار واتباع هذا الداعية الكردي المقيم في الولايات المتحدة، وهناك ضحايا للاعتقال والمطاردة والإقالة وامتهان الكرامة العسكرية والمدنية، تشمل آلاف الضباط والمدرسين والموظفين والإعلاميين والمعارضين من كل لون، وكان الأحرى بالرئيس أردوغان أن يتعامل بروح متسامحة واعتدال سياسي مع خصومه ومنافسيه العقائديين. وكم يلفت النظر حقاً، أن يشن «الإخوان» خاصة هجومهم المتصل الشرس على من «اضطهدهم» وسجنهم في مصر، وطاردهم في مناطق أخرى، ولا ينبسون ببنت شفة ضد الاعتقالات الكيفية والطرد التعسفي من الوظائف والحرمات من الحقوق المدنية الذي يمارس ضد أنصار «غولن» والمعارضة وضد المتهمين في «انقلاب يوليو». أمام الرئيس أردوغان كذلك تحديات سياسية ضخمة وملفات شائكة، كما قد يصعب عليه التعامل معها كلها سالماً غانماً. ومن الأطراف التي سيتعامل معها بلا مهرب الأكراد والاتحاد الأوروبي وأميركا وروسيا وإيران والعراق وسوريا ودول مجلس التعاون وإسرائيل.. إلخ. ويتوقع بعض المراقبين تراجع حماس تركيا للعضوية في الاتحاد الأوروبي في المرحلة المقبلة مع التركيز على تحرر الأتراك من شروط «فيزا شنجن» وتعزيز التعاون الاقتصادي، كما أن أردوغان بهذا النصر الانتخابي، بات في وضع تفاوضي أحسن لخوض معاركه مع الغرب. ولاشك أنه سيبحث عن المزيد من المصالح مع روسيا حال ابتعاد الولايات المتحدة وأوروبا عن تركيا. أما ملفات الاختلاف التركي - الأميركي، تقول جريدة «القبس» الكويتية، فترتبط بدعم واشنطن لحزب العمال الكردستاني، واحتضان واشنطن لمن تقول أنقرة أنه مدبر انقلاب 2016 فتح الله غولن، وملف بنك الشعب «خلق بانك» التركي، وشراء تركيا أسلحة متقدمة من روسيا. «لكن الأكيد أنه كلما اقتربت أنقرة من واشنطن، شعرت موسكو بعدم الارتياح، والعكس صحيح» [27-6-2018] ويحتم الملف الكردي المزيد من التقارب التركي - الإيراني، رغم خلاف الدولتين في قضايا أخرى وعدم ثقة تركيا بمجموعة من السياسات الإيرانية، وستبقى تركيا حريصة على التوازن بين إيران والسعودية، وإن كان الموقف الأميركي من الملف النووي الإيراني «ستضطر السياسة الخارجية التركية إلى مواجهة امتحان صعب في هذا المجال». ورغم المكاسب الضخمة التي حققتها سياسة «تصفير المشاكل» التي تبخر الكثير من منجزاتها، بين تركيا والعالم العربي، ورغم أنها فتحت الأبواب أمام المصالح التركية في الأوساط العربية لأول مرة منذ عقود بعيدة، فإن من المستبعد أن تنال سياسات تركيا الحالية بانحيازها العلني المتواصل إلى جانب «الإخوان» واستراتيجيات الإسلام السياسي، نفس التعاطف والود الذي ساد العلاقات العربية التركية قبل أحداث «الربيع العربي». درس د. طلال عتريسي أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية السياسة التركية مع روسيا وأميركا وإيران. [شؤون عربية، العدد167 - 2016] وقال إن التنافس التركي الإيراني كان من نتائج تحولات الربيع العربي.. وقبل ذلك كانت «تركيا عضواً في حلف الناتو ولديها علاقات مع إسرائيل، وتوجهاتها الاستراتيجية غربية أطلسية وتسعى إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. أما إيران فتعتبر نفسها في صدام مع هذا الحلف، وتعتبر أن إسرائيل هي كيان لا شرعية له وتدعم حركات المقاومة التي تقاتله. لكن المصالح الكبيرة والواسعة التجارية والاقتصادية والنفطية كانت هي الوجه الأبرز في العلاقات التركية الإيرانية». ويضيف د. عتريس أن تحولات الربيع العربي لم تمس هذه العلاقات إلا عندما «وصل الحريق إلى البيت السوري»، وهنا انفجر الخلاف. «فإيران من جهة تريد حماية النظام ولا تسمح بسقوطه، وتركيا بالمقابل تريد العكس تماماً وتبذل كل الجهود لإسقاطه». التخلص من هذا النظام والنجاح في مصر وتونس والمغرب كان سيجعل من تركيا، يقول الباحث «مرجعية الإسلام الإخواني السُني في العالم». كما أن سقوط سوريا «يوسع المجال الحيوي التركي، إذا أصبح النظام السوري موالياً لأنقرة، بحيث تستعيد تركيا «عثمانيتها»، كما أشار إلى ذلك صراحة وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو، منظِّر «العمق الاستراتيجي» لتركيا. وهكذا ستلعب تركيا في هذه الحرب «الدور نفسه الذي لعبته باكستان في المواجهة مع الجيش السوفييتي في أفغانستان».