هل بات العالم في مواجهة استحقاقات أسياد جدد كما أشارت أصوات آسيوية عديدة في الأسبوع الثاني من شهر يونيو الجاري، بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين؟ حتى وقت قريب كانت نظرية ماكندر Mchinder عن قلب الأرض هي النموذج المسيطر على قراءات الجيوبولتيك الدولي. وباختصار غير مخل تذهب إلى القول إن أوروبا تحديداً هي قلب العالم، لكن التطورات الجيوسياسية الراهنة تشي بأن آسيا هي المستقبل. لم تكن زيارة بوتين للصين زيارة عادية، بل يمكن القطع أنها زيارة استثنائية، وإن غلفتها مسحة براجماتية لا بد منها للبلدين، وبخاصة في ضوء النظرة الأميركية الآتية للصين وروسيا بوصفهما خصمين استراتيجيين. بدأ بوتين رحلته في الثامن من يونيو، وفي التاسع والعاشر من الشهر نفسه، شارك الزعيمان قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدنية «تشينغداو» الصينية. تبقى «منظمة شنغهاي» مدخلاً مثيراً للتفكير في آسيا قلب العالم الجديد، وهي التي تأسست في 2001 كمنظمة سياسية واقتصادية وأمنية أوراسية، تلعب فيها موسكو وبكين، دور القلب من جسم الإنسان. حين يضغط العم سام ممثلاً في دونالد ترامب الرجل الذي يحمل شعار أميركا أولاً، يسارع القلب الآسيوي الجديد في ضخ الدم إلى بقية أطراف المنظمة، لمواجهة حروب ترامب التجارية تارة، والأمنية تارة ثانية، في الأرض، وخارج الكوكب... هل أتاكم حديث ترامب عن عسكرة الفضاء عما قريب في إحياء لا يقبل الشك لبرنامج حرب النجوم لصاحبه رونالد ريجان في أوائل ثمانينيات القرن الماضي؟ الذين قدر لهم متابعة أعمال منتدى سان بطرسبرج الاقتصادي الدولي في العام 2016 استمعوا إلى إعلان كل من فلاديمير بوتين، ونزار باييف رئيس كازاخستان وهما يتحدثان عن بناء أوراسيا كبيرة، وفيما كانت هناك من قبل أوروبا من لشبونة إلى فلاديفوستوك، أي أقصى مدينة في شرق روسيا، فان الناظر للخريطة الجيوبوليتيكية اليوم، يمكنه القطع بأن أوراسياً القادمة ربما تمتد من بحر الصين الجنوبي، إلى القناة الإنجليزية. شاهد العالم زعيم الصين يستضيف بوتين في قطار فائق السرعة في إشارة صينية يتفهمها الروس جيداً، وتدل على مدى التقدم الذي تحزره بكين في عالم المسافات سواء الجغرافية على الأرض، أو فيما يتصل بالنفوذ السياسي المتزايد حول العالم. أسياد العالم الجدد، باتوا اليوم على أبواب التصدي والتحدي الكبيرين للضغوطات الأميركية المتسارعة، وفيما كانت العلاقة توصف من قبل بين بريطانيا وأميركا بأنها خاصة، يبدو أن الوقت قد حان الآن لإظهار تحالف سياسي بين روسيا والصين، ليكون بديلاً عن الهيمنة الأميركية. عبر زيارة الثلاثة أيام، وبجانب صور بوتين وجيبينج التي نقلتها عدسات العالم بقصد الإعلان عن مولد رعاة جدد لعالم تتحلل رقائقه التكتونية التقليدية، كانت هناك سلسلة من الاتفاقات الروسية الصينية التي جرى توقيعها في مجال الطاقة الذرية السلمية، وهي الأكبر في تاريخ التعاون بين الدولتين في المجال النووي. نجح ترامب في أن يقرب ويوثق بين خصومه، وهما غير متفقين في كافة التوجهات، وبينها في العمق التراثي والوجداني ما صنع الحداد، لكنهما فضلاً والحال هذه وتحت إملاءات واشنطن، التقارب الذرائعي النفعي. فعلى سبيل المثال، تقوم روسيا وبصمت بدعم رؤية بكين لبحر الصين الجنوبي التي تقطع بأنه مياه نفوذ صينية، فيما بكين لم تنبس ببنت شفة كما يقال، نقداً لضم روسيا شبه جزيرة القرم. لا تتصالح المصالح الروسية – الصينية على صعيد التطور السياسي والتعاون الاقتصادي فحسب، بل إنهما يخلقان معاً واقعاً سياسياً جديداً يمضي من عند التكامل المشترك على أساس المشروع الصيني «حزام واحد – طريق واحد»، ويصل إلى ما يشبه الاتحاد العسكري السياسي، فعلى القرب من بكين وموسكو تظهر منطقة ثقة تجارية واقتصادية وعسكرية وسياسية، سيتم فيها تأسيس قواعد موحدة للعبة، كما هو الحال مثلاً في الاتحاد الأوروبي. أحد الأسئلة المثيرة للقلق أميركياً بشأن أسياد العالم الجدد: هل ستنضم أوروبا إليهم أم تبقى على عهودها ووعودها للحليف الأميركي؟ ربما فعل ترامب ما لم يفعله أحد من رؤساء أميركا السابقين في فك رباطات العروة الوثقى، إن جاز القول، بين واشنطن وبقية العواصم الأوروبية، لاسيما باريس، وبرلين. وعبر الضرائب والمعاملات المالية المجحفة بالنسبة للأوروبيين يدفع ترامب المستشارة ميركل والرئيس ماكرون للتفكير عميقاً حول ما إذا كان يتعين عليهما الانضمام إلى المشروع الجيوبوليتيكي الآسيوي الجديد، والذي فيه تتحد أوراسيا للمرة الأولى في قارة واحدة، ليس جغرافياً، إنما اقتصادياً وسياسياً، وأغلب الطن أن الطرح يغازل قادة أوروبا، وبخاصة إذا ما تم تأسيس قواعد موحدة، فعندها سيبدأ التقارب السياسي بين أوروبا وآسيا، ولتصحو الولايات المتحدة الأميركية لتجد نفسها معزولة بين محيطين يحدانها من الشرق والغرب. جزئية أخرى ربما لم يلتفت إليها الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون ومستشارو ترامب، تلك التي تتعلق بأسياد العالم الجدد ديموغرافياً، أي انطلاقاً من عدد السكان، فقد رفع الصينيون القيود على الولادات، والتي كانت مفروضة من قبل، ومعنى ذلك أنه في أقل من عشر سنوات سيبلغ تعداد الصين ملياري نسمة، وحال إضافة سكان الهند، وبقية الجمهوريات الآسيوية الفاعلة حول روسيا، يدرك الناظر أن غروب شمس الإمبراطورية الأميركية قد يكون قريباً جداً. *كاتب مصري