انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة خطوة جديدة تعكس إصرار الرئيس دونالد ترامب وغالبية إدارته على تهميش العمل الدولي المشترك. في ظروف مختلفة، وفي ظلّ إدارة أميركية أخرى، كان يمكن هذا القرار أن يكون مقلقاً. أما وأن معظم سياسات ترامب اتسم بالتشدّد والكيل بمكيالين، فإن العالم لم يعد يتوقّع منه سوى قرارات تضاعف التأزيم في كل المجالات، وتزيد المجتمع الدولي انقساماً. ولو أن الأمر يتعلّق بدولة عادية لما أثار أي أسف أو جدل، لكن الولايات المتحدة اعتادت وعوّدت العالم على أنها هي التي تقود، ليس فقط في المبادرة والعمل، بل خصوصاً في الدفاع عن القيم الإنسانية السامية وصونها. وفيما يبدو أن مثل هذا الاعتبار أصبح شيئاً من التاريخ فإن انعكاسات انهياره باتت تنذر بأسوأ العواقب على النظام العالمي وعلى أميركا نفسها. ثمة مؤشّر يتمثّل في أن واشنطن لم تتقبّل أن ينتقدها مجلس حقوق الإنسان بسبب الفصل بين الأبناء القاصرين عن ذويهم من المهاجرين غير الشرعيين، رغم أن كان إجراءً مداناً داخل أميركا. فالمشكلة أربكت الوسط السياسي «الجمهوري» و«الديموقراطي» على السواء، ولم يفد الاختباء وراء أحكام قانون يسمح بهذا الفصل بغية ردع الهجرة غير الشرعية، كما لم يفد إلقاء المسؤولية على إدارة باراك أوباما، فالمسألة نافرة بعدم أخلاقيتها؛ لذا اضطر ترامب للتراجع جزئياً من دون أن يتخلّى عن سياسة عدم التسامح. وإذ جاء الانسحاب كردٍّ على انتقاد مجلس حقوق الإنسان، إلا أن الوزير «مايك بومبيو» والسفيرة «نيكي هايلي» أوضحا أن ثمة تراكمات، منها مطالبة أميركية سابقة بـ «إصلاحات» في هيكلية المجلس وعمله، لكن أهمها «انحياز» هذا المجلس ضد إسرائيل. لا يمكن الولايات المتحدة، ولا سواها من دول «الفيتو» الخمس، أن تتوقّع من مجلس حقوق الإنسان أن يتغاضى عن أي انتهاكات سواء كانت إسرائيلية أم لا. ومع افتراض وجود هذا الانحياز فعلاً لا تستطيع واشنطن أن تصلحه بانحيازها لمصلحة دولة احتلال لديها سجل أسود في مجال حقوق الإنسان، بل بأن تكون قدوة في احترام الحقوق والقوانين لتتمكّن من محاكمة مواقف الدول الأخرى. لا بدّ من الإشارة إلى أن واشنطن استطاعت في مناسبات عدة أن تعطّل المصادقة على تقارير تدين إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وأكثرها شهرةً تقرير لجنة التحقيق التي ترأسها القاضي اليهودي ريتشارد جولدستون عن حرب غزة الأولى (أواخر 2008 - أوائل 2009). وخلافاً للمرّات السابقة حين كانت الولايات المتحدة تجد من يصطف معها في انحيازاتها، فإن إسرائيل كانت الدولة الوحيدة التي رحّبت بانسحابها من المجلس، بل إنها ألحّت عليها طوال الشهور الماضية كي تقدم على هذه الخطوة. هناك دول عديدة مستاءة من تقارير مجلس حقوق الإنسان وانحيازاته لكنها لا تنسحب منه، ولو فعلت لكانت واشنطن أول من يلومها ويعيّرها، فما تجيزه أميركا لنفسها لا تجيزه لغيرها، وكان لافتاً أن أكثر التعليقات حدّة على انسحابها جاء من موسكو التي اعتبرته «وقاحة» و«استهتاراً» و«دليل ضعف»، علماً بأن سجل روسيا في «جمهورياتها» الملحقة أو حتى في الداخل لا يخوّلها انتقاد أحد. لكن هل الانسحاب الأميركي مهم؟ طبعاً، إنه بأهمية الولايات المتحدة ومكانتها وقدراتها. صحيح أن قرارات مجلس حقوق الإنسان غير ملزمة، إلا أنه وُجد أصلاً للتذكير بتلك الحقوق والدفاع عنها. وعندما تشكو واشنطن من أن المجلس وقع تحت هيمنة دول مارقة تسعى إلى فرض قيمها وحماية الحكومات المستبدة والفاسدة، فلا شك في أن تقصير الدول الكبرى في احترام القيم الإنسانية، هو الذي منح مجلس حقوق الإنسان «دوراً تصحيحياً» ولو بمجرد إبداء الرأي. بالنسبة إلى العديد من المراجع، يمرّ النظام العالمي حالياً بمرحلة تغيير يسودها التغوّل والعشوائية وعدم اليقين. ففيما أعادت روسيا-بوتين أجواء الحرب الباردة تمضي أميركا - ترامب في تهشيم البنى التي قام عليها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً ما يتعلّق منها بالاقتصاد والتجارة. وبموازاة سلوك الدولتين العُظميَين هذا تدور سباقات محمومة إلى التسلّح، تحديداً النووي، وعلى نحوٍ يُنذر بفوضى تصعب السيطرة عليها. وفي مناخ كهذا لا يبدو اللاجئون كأعداء فحسب، بل يصبح القنص الإسرائيلي للمتظاهرين الفلسطينيين «عملاً سيادياً» ترفض واشنطن إدانته، كما يغدو القصف بالغازات السامة في سوريا «عملاً حربياً» لا ترى موسكو موجباً للتحقيق فيه. وبالتالي تفقد «حقوق الإنسان» أي حصانة رمزية لها وينسى المجتمع الدولي شرعةً لطالما اعتبرها أهم ما توصّل إليه.