ثمة حركة هائلة في الغرب باتجاه تغيير غير مسبوق تحت عنوان «العولمة». فقد دخل قرننا هذا مؤسِّساً لحالة غير مسبوقة من التقدم والتغيير الذي أخذ يشمل المعمورة كلها، وينظر إلى ما بعدها بهدف الإحاطة بها عبر منظومات علمية مستحدثة تحاول سبر آفاق غير مكتشفة. هذا بينما يلاحظ العربي أن أمته تعيش عثاراً عمره قرنان من الزمن، إضافة إلى ما انتهى إليه أمرها حالياً من دكٍ لأسوار الأوطان وتفكيك بنيتها، في غياب مَن يعيد لها بناءها وأهلها. ظاهرة «العولمة» جعلت الوطن العربي هدفاً سهل المنال، إلى درجة أصبح معها الخروج به من الحصار التاريخي عمليةً تتطلب قروناً، وسط حقول من الألغام مديدة الفعل والتأثير. إن هذا الخيار هو جزء من إشكالية العالم العربي حالياً: مواجهة العولمة أم الاندماج فيها؟ الأمر يتصل بحقبة تاريخية بدأت في القرن الـ19 وما تزال متواصلة حتى الآن. لقد أتت العولمة لتكرس ما نحن عليه منذ سنين، وربما لندفع ثمنه غالياً، خصوصاً على صعيد «الهوية» الوطنية والقومية، فهذه الأخيرة جرت محاولة بعثرتها. ولعلَّ محاولات التغيير والتأسيس لمشاريع إصلاحية لم تبن أرضاً صلبة في العالم العربي، مما حال دون تحول عميق في حياته العامة، حيث يجد العالم العربي نفسه أمام خواء تاريخي قد يطيح بكثير من آماله. وثمة سؤال يطرحه الواقع الحالي لكثير من البلاد العربية: هل تراهنون على بلد آخر في عصر العولمة؟ إن التساؤل إياه لا يفسح الطريق أمام خيار آخر، فالعولمة لم تعد تحتمل غير «سياسة مصنعة ومؤدلجة عولمياً». إن العولمة تمثل حالة جديدة نشأت في نظام رأسمالي أميركي ومرحلة تطور يمثل تكيفاً لتصورات متتالية في التاريخ ربما تعود إلى 2000 سنة قبل الآن. ومن سمات هذا التحول التراكم في الإنتاج الاقتصادي، والذي طبع المجتمع العولمي بما فيه من ثورة علمية ومعلوماتية، مع تغيرات على صعيد الهندسة الوراثية والاتصالات والمعلوماتية والمشاريع التجارية العملاقة، إلى جانب انفجارات سكانية ضخمة أنتجت في بلدان «العالم الثالث» كماً هائلاً من الفقراء مقابل أغنياء تحوّلت مشاريعهم إلى أنشطة كونية؛ فأدى ذلك إلى ثنائية فظيعة من الغنى الفاحش والفقر المدقع. وقد رافق ذلك نشوء تكتلات اقتصادية كبرى أسهمت في تعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء. وبالتساوق مع ذلك التمايز برزت تطورات عاصفة على صعيد الهندسة الوراثية التي تطرح أسئلة تتصل بحياة الناس، مما أحدث تحولات كبرى على صعيد الثقافة والقيم الأخلاقية. فقد أنتجت العولمة منظومة من القيم الثقافية والأخلاقية، أخذت تمتد بآثارها نحو الكثيرين على اختلاف رؤاهم الفكرية والأيديولوجية. وفي ذلك السياق، أخذت أصوات احتجاج تظهر في أوساط الفقراء الذين راحوا يوجهون انتقادهم لمن تصدر حركات العولمة، مما أفصح عن نفسه ضمن الحراك الجديد المناوئ للعولمة في الغرب، يداً بيد مع تعاظم أصوات مثقفين وساسة يدعون إلى البدء في بلدانهم بإنتاج قوة جديدة تقف في وجه العولمة الغربية التي وصل اجتياحها إلى آخر المعمورة. في هذا السياق، ينبغي ألا يفوتنا تقديم صورة أخرى أو تعريف آخر للعولمة يمكن أن نرى عبره الوجه الآخر لهذه الظاهرة. وفي هذا الصدد تظهر الرؤية التعريفية للعولمة انطلاقاً من المقولة: كلما ارتفعت قيمة الأشياء هبطت قيمة الإنسان.. ما يجعل العولمة محصورة في عملية هائلة من إقصاء البشر، تتحول إلى تفكيك للإنسان والمجتمع والأشياء.