رمضان الذي نعيش أيامه الأخيرة فرصة سانحة للتوقف مع الذات والتأمل في ما فات، كي يخرج الإنسان من هذه الدورة العظيمة في حياته بنفسية جديدة وروح متحفزة للحياة، متزودة بزاد السماء الذي يجعل الإيجابية رفيقة الدرب، والأخلاق الحسنة سبيلاً للتعامل مع الناس. في كل الديانات هناك صيام لأن مدرسته لا يستغني عنها الإنسان، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ»، لذلك نجد أن الصيام شعيرة ممارسة عند كل أهل الكتب السماوية كالنصارى واليهود. وبعيداً عن الديانات السماوية، فإن المسارات الروحية التي اجتهد الناس في تنظيمها تجد أن الصيام جزء أساسي من طقوسهم، كما نرى عند الهندوس والبوذيين، لأن الصيام فرصة للتأمل الداخلي من أجل «التخلية»، والمقصود بها تنقية النفس البشرية من الشوائب الشائنة العالقة بها عبر الزمن المنصرم. الأصل في الإنسان أن فطرته سوية تعرف المعروف، وتنكر المنكر، بيد أن الحياة بكل منعطفاتها تؤثر سلباً في هذه الفطرة، فتحرفها عن مسارها السوي إلى هاوية سحيقة من الشذوذ عن الصراط المستقيم، فيأتي العقاب الدنيوي بسحب بساط السعادة من النفس البشرية التي آثرت الانحراف وأحبت الركون إلى المعاصي والآثام، حتى أصبح المعروف لديها منكراً، وعندما تخلو النفس البشرية عبر طقوس الصيام المختلفة مع ذاتها، وتتفكر في حالها، تصاب بخيبة أمل وقنوط قد يدفعها من جديد إلى الارتكاس في هاوية الملذات، لكن رحمة الله واسعة بعبادة، فجعل من رمضان فرصة سانحة للتخلص من الآثام، جاء في الحديث عند البخاري ومسلم وغيرهما: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، إنه شهر التقدم خطوات نحو الخالق سبحانه، مهمة ليست سهلة كما يتصورها البعض رغم أن الدرب ممهد لها، ومن الشقاء أن تمر علينا هذه الأيام ونحن نهدرها في غير المناسب من الفعاليات والأنشطة التي تبعدنا عن مرحلة التواصل مع الذات لتجديد الانسجام النفسي والروحي، فهما مصدر السعادة الحقيقية، من هنا ندرك التحذير النبوي «إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، هكذا قال عليه الصلاة والسلام محذراً كل من تهاون في هذا الشهر الكريم، إنه فعلاً شهر التخلية. ولأن النفس البشرية لا تستقيم حياتها في فراغ، لا بد بعد التخلية من تحلية، والمقصود بذلك بعد التخلص من الممارسات الخاطئة في حياتنا، والتي أثرت سلبيتها على رتم السعادة النفسية لدينا لا بد من ملء الفراغ الناشئ من ذلك ببعض الممارسات الإيجابية، فإن قررت في مشوار التخلية التخلص من بعض رفقاء السوء لا بد من البحث عن غيرهم من الأخيار، وإن ألزمت نفسك بالتخلي عن بعض العادات مثل الذهاب للأماكن المشبوهة فلا بد من التعويض عن ذلك بالانتماء لمرافق مناسبة مثل النوادي الرياضية، وهكذا لا بد من التحلية التي تتبع «التخلية» التي أجريتها في رمضان. الصيام رحلة متعبة وبالذات في ما تبقى من الشهر، لكن لذة الإمساك متأكد منها ونالها كل من جرب الصيام، وروعة مناجاة الخالق في التهجد والقيام شرف يضيء حياة المؤمن بأنوار الطاعات، في هذه الأيام الأخيرة من رمضان، هناك قرارات مهمة يتخذها المؤمن الذي تمكن الصيام من حياته، من ذلك الممارسات التي تعلمها المسلم من رمضان ويود أن يطبقها بقية العام، هذه مهمة أخيرة لا بد من القيام بها قبل عيد الفطر.