يوماً تلو الآخر، تثبت السلطات الإيرانية أنها مصابة بمتلازمة «زعزعة الاستقرار»، بمعنى أنها لا يمكن لها أن تهنأ بالاً، إلا إذا كانت أياديها الأخطبوطية وراء إثارة القلاقل خليجياً وشرق أوسطياً وعالمياً. قبل بضعة أيام، وبينما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يدعو إلى إبرام اتفاق جديد مع إيران يعالج جوانب السلوك الإيراني «المزعزع للاستقرار»، كان الرد الإيراني يأتيه من خلال تصريحات الناطق باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية «بهروز كمالوندي» بشأن نية طهران بدء عملية فنية تسرع من قدرتها على تخصيب اليورانيوم. حديث «كمالوندي» أفاد بأن إيران ستسلم إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية رسالة رسمية في هذا الخصوص، ما يعني عملياً وفعلياً على الأرض زيادة القدرة على انتاج «سادس فلوريد اليورانيوم»، وهو المادة الخام المستعملة في أجهزة الطرد المركزي. هل كانت تصريحات ترامب الأخيرة بشأن إيران بمثابة فخ منصوب لطهران ونظام الملالي، وقد أرخى الرئيس الأميركي الحبل ليجعل آيات الله يلفونه من حول رقابهم؟ حين أعلن «مايك بومبيو» عن المطلوب من إيران، ذهب الملالي إلى القول إن المراد هو إنهاء زمن الجمهورية الإيرانية قبل أن تبلغ العقد الرابع من عمرها، غير أن تصريحات ترامب الأخيرة ألقت الكرة من جديد في ملعب الإيرانيين، وربما أراد الجالس سعيداً في البيت الأبيض أن يرى العالم ردات الفعل الإيرانية، وهل هي دولة تسعى للاستقرار، أم لخلق المشاكل، وقد جاء الرد سريعاً، فالمزيد من التخصيب يؤكد أن نوايا إيران في حيازة سلاح نووي لم ولن تتغير. لم يصدق أحد يوماً رجال «التقية» الإيرانية التقليديين حين ملأوا الدنيا صياحاً بالقول إن برنامجهم النووي هو برنامج للحصول على الطاقة السلمية من أجل ضمان نهضة صناعية وزراعية لبلادهم، ذلك أن ما هو متوافر من الطاقة النفطية والغاز لإيران يكفي لمئات السنين، وما السعي للحصول على البرنامج النووي إلا بهدف بسط الهمينة ومد النفوذ على بقية أطراف المنطقة، وهي أهداف لا تواريها ولا تداريها إيران في ماضيها وحاضرها وغدها على الدوام. قبل بضعة أيام كانت صحيفة «التايمز» البريطانية بدورها تؤكد أنها اطلعت على وثيقة بارزة تُظهر تخصيب اليورانيوم وفق مستوى موجه لصناعة الاسلحة لفائدة وزارة الدفاع الايرانية. الوثيقة الايرانية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن ما أعلنته إيران رسمياً قبل سنوات، وما أخبرت به وكالة الطاقة الذرية رسمياً عن برنامجها النووي لا يعد إلا ترهات وأكاذيب مغرقة في المكر والخبث، مقارنة بما تقوله الوثائق المحققة والمدققة، التي لا تكذب ولا تتجمل، فقد ادعت إيران طويلاً اقتصار برنامجها على دراسات علمية وإجراء بحوث للجدوى، في حين أن الحقائق تظهر ترتيباً متقدماً تقنياً واستخباراتياً من أجل الحصول على برنامج تسليح نووي كامل وشامل، بناء على تعليمات «هيراركية» من السلطة الروحية الأعلى للبلاد المتمثلة في مرشد الثورة «علي خامنئي» والحرس الثوري، اليد اليمنى له والاكثر فاعلية في البلاد وخارجها. لم تسمح إيران حتى بعد عقد الاتفاق سيئ السمعة مع الغرب للمفتشين الدوليين بالدخول إلى عمق أعماق مواقعها المسلحة، حيث هناك وفي الخفاء تدور فعاليات البرامج النووية الحقيقية التي تبغيها إيران، وليس أدل على ذلك من صور المولدات في تلك المواقع، والتي استخدمت لإمداد آلات أشعة سينية بالطاقة، وقد جرى اللجوء إلى هذه الأداة من قبل الإيرانيين لإجراء اختبار تمثيلي للانفجار في موقع «برشين» العسكري، فيما يرجح خبراء عسكريون عطفاً على عملاء استخباراتيين غربيين ان منشأة «فردو» الإيرانية لتخصيب اليورانيوم، موجهة في الأساس لإنتاج اليورانيوم الخاص لصنع الأسلحة النووية. في 23 مايو المنصرم. وفي رسالته السنوية للشعب الإيراني التي يوجهها كل سنة من خلال الإفطار الرمضاني التقليدي، أدلى خامنئي بتصريحات تكشف عن مكنونات النوايا الإيرانية في المضي قدماً إلى الأمام، مدفوعة بالمتلازمة التي أدمنتها. وفي رسالة يتوجب على الأوروبيين بنوع خاص أن يقرأوها بعين مدققة، وبعيداً عن المصالح الاقتصادية القاصرة عن فهم وإدراك المخاطر الاستراتيجية التي يمكن أن تصيبهم من جراء صواريخ إيران ورؤوسها النووية الآتية، ولاشك إن استمر التسويف الإيراني والتخاذل الأوروبي. ذكّر خامنئي المستمعين بأنه خلال المفاوضات النووية بين عامي 2004 و2005 طالب الغرب بتفكيك منشأة إيران النووية، ووقف تخصيب اليورانيوم، وبدلاً من ذلك أقامت طهران منشأة لتحويل اليورانيوم في أصفهان، وأطلقت جهوداً لتخصيب اليورانيوم في «ناتانز»، وانتجت في النهاية مجموعات من اليورانيوم تحتوي على ما يصل إلى 20 في المائة من نظير اليورانيوم القابل للانشطار (اليورانيوم 235)، وهو المستوى المطلوب ليصبح مادة شبه قابلة للاستخدام في تصنيع الأسلحة النووية. ما الذي ستفعله إيران في قادم الأيام؟ على القياس السابق يبقى الأسوأ من طهران لم يأت بعد، ما يجعل الخيارات تجاهها تتقلص في المواجهة العسكرية إن اخفقت العقوبات الاقتصادية، أو استكان الإيرانيون في الداخل. *كاتب مصري