جميل أن يكون هناك حراك فكري في المجتمع، ليدور النقاش وتدحض الحجج وتثبت الأفكار والآراء. وجميل أن يكون الحوار في مستوى رفيع من الاحترام أياً كان حجم الاختلاف وعمقه، فالحوار الناضج هو الحوار المنصت، والمتحاور بهدوء من دون تعصب أو غضب أو تجاوز عن الاحترام. لدرجة أن البعض يكيل الشتائم لمجرد اختلاف في وجهات النظر، لا يليق بصاحب الرأي أن ينحدر لهذا المستوى، فالأفكار وتجاذبات الحوارات هي الفرصة لإثراء الفكر واتساع العقل، وفرصة مهمة في رؤية أفق جديد لا تحده حدود التعصب للأفكار. فالحوار شرفة للتعرف على عقول الآخرين والمفتاح الذي يتيح فرصة الانطلاق نحو الآخرين بمعرفة تامة بماذا تحوي عقولهم. ولكن التمسك بالرأي الواحد، وضيق الأفق الذي لا يرى فيه المتحاور أبعد من أنفه، هو حالة فكرية تعكس ضحالة الشخص وعدم امتلاكه لحجة يثبت بها وجهة نظره. فلا أسهل في شتم الآخر والإساءة له لأنه اختلف فقط في رأيه. لكن الشتم أعطاه فرصة للهروب أو المواجهة لشرح فكرته والاستفاضة في تدعيمها بالبراهين، ما يدفع البعض نحو هاوية الصراخ والغضب والانتقام. فليس كل أستاذ جامعي متحاور ناجح. وليس كل قارئ قادر على شرح أفكاره، والفكر النير لا يعني البتة الإلمام بكل المواضيع والإدلاء بالرأي فيها، كما أن الرقي والوعي، لا ينقصهما الاعتراف بعدم العلم أو عدم الإلمام في أي قضية تطرح للنقاش. فالمثقف الموسوعي انتهى عصره، وتوقف عند متثقفي القرن الماضي، وبالتالي اندثر ذاك المؤرخ والمثقف والداعية الذي اعتبره المجتمع من حوله نموذجاً شاملاً للمثقف المعاصر. وإذا كان البعض يحاول أن يلعب هذا الدور ويدعيه، ولكن ما يكشف ضعف حجته هو أسلوب تحاوره مع غيره من المختلفين عنه ومعه. هنا فعلاً يبرز الفكر المستنير الذي يحترم ويقدر الرأي الآخر ولا يقع في خطيئة التصنيف والتهديد. فالتصنيف هو الأسهل في لجم فرصة الاختلاف المحترم، وهو الأسلوب الضعيف الذي ينتهجه من لا فكر ولا قناعات ولا رأي له. ما أجمل الحوارات العميقة والراقية، والتي نختلف معها جملة وتفصيلاً، ولكنها تحتفظ بجمال اتساع أفقها، وانصاتها وقدرة صاحبها على الهدوء والأدب في كل الأحوال. نعتقد هذا الحوار وسط كل هذا الصراخ. *كاتبة إماراتية