بصدور كتاب وائل حلاق «الشريعة» بالعربية (2018)، تجدد النقاش حول كتابه «الدولة المستحيلة» (2013)، والذي أثار وقتها جدالاتٍ جمة. فحلاّق المعروف بتخصصه في تاريخ الفقه الإسلامي، خرج على عادته وتخصصه، وأقبل على كتابة عجالةٍ في فلسفة الدولة في كلٍ من الغرب والإسلام، وهي مختلفةٌ عن كتاب برتران بادي «الدولتان». فبادي كان يستعرض رؤية السلطة والدولة لدى كلٍ من المسلمين والغربيين في الماضي والحاضر. أما حلاّق، فيستعرض طرائق وفلسفة قيام الدولة القومية في الغرب الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى الزمن الحاضر. وهي دولة اكتفاء الإنسان بذاته وقدراته، والإقبال على تنظيمها بما يخدم هذه المصالح. وقد جمعت فلسفة الدولة الحديثة ما بين فلسفتي هوبز ولوك. هوبز أراد إعطاءَ الملك سلطةً مطلقة لكي ينتقذ المجتمع من «حرب الكل على الكُل». وجون لوك وضع السلطة العامة في حضن «الإرادة العامة» للمجتمع والناجمة عن العقد الاجتماعي. وهاتان الفلسفتان تمثلتا في القرن العشرين، إحداهما في الفاشيات، والأُخرى في الديمقراطيات. وفي الظاهر، فإنّ الديمقراطيات انتصرت. بيد أنّ هذا الحلم، وسواء أكان متفرعاً على فلسفة التفرد لصون المجتمع من نفسه، أو كان متفرعاً عن الإرادة العامة من خلال الانتخابات، يظل سلطة مطلقةً؛ لأنّ السلطة لا تنقسم وإذا تحددت فينبغي أن تتحددَّ من الداخل وليس من الخارج. ثم إنها صارت عقدية، بخلاف السلطة الإمبراطورية أو الملكية التقليدية؛ لأنها قامت على موضوعة: «الدولة الأمة» أو الدولة القومية. والقومية بناء متوهَّم يُنشئُ سلطةً على أرضٍ محدَّدةٍ يفترض أنها أرض الآباء والأجداد، وينبغي أن تكون القومية موحَّدةَ من كل وجه وتنفي التمايُز مهما صغر بداخلها، وتقيم تمايزات شاسعة مع الغير والآخر والقوميات الأُخرى. ولكي تنضبط سلطة الإرادة القومية أو تتعلقن، فقد جرى تقييدها بالقانون الذي تصنعه الأمة لصون مصالحها السيادية تجاه الخارج والداخل. لماذا هذا التفصيل في مسألة الدولة القومية؟ وما علاقة ذلك بكتاب حلاّق «الدولة المستحيلة»؟! الدولةُ المستحيلة عنده هي الدولة الإسلامية التي تدعو إليها حركات الإسلام السياسي أو المشروعات المقاربة. وهي مستحيلة التحقق؛ لأنّ بينها وبين الدولة الحديثة تناقضاً هائلاً، حيث تقوم على الشريعة التي تتقدم فيها الاعتبارات الأخلاقية الأعلى درجةً من القانون أو أنها تملك معايير أُخرى. لقد حاول الإسلاميون الحزبيون وغير الحزبيين في الأزمنة الحديثة الملاءَمة بين الدولة الإسلامية كما تصوروها، والدولة الحديثة، لكنهم فشلوا في ذلك، والذين اعتبروا أنهم نجحوا كانوا قد خرجوا على مقتضيات الدولة الإسلامية المتخيَّلة أو الدولة الحديثة المتحققة! كتاب حلاّق اشتدّ الهجوم عليه من جانب اليساريين أولاً، ثم من جانب الإسلاميين. فاليساريون رأوا أنه يجاملُ الإسلام والإسلاميين كثيراً، ويعتبر مشروعهم للدولة والسلطة مشروعاً أخلاقياً، وسط إدانة شديدة الهول للدولة (القومية) الحديثة، والكيانات السلطوية الغربية عموماً. اليسايون رأوا أنّ «أخلاقية» أي مشروع تبدو في القدرات أو الإمكانيات التي يتيحها لصنع الخير العام: فكيف لا يكون المشروع الديمقراطي أخلاقياً، وتكون مشروعات وهمية تصل إلى «داعش»، هي الأكثر أخلاقية؟! أما الإسلاميون، فأزعجهم ذهاب حلاق إلى استحالة مشروعهم، رغم كثرة الثناء على طابعه الأخلاقي، لأنه ذو أصلٍ ديني. كما اعتبروا التلاؤم أو الملاءمة حاصلة، إذ عملوا منذ نحو قرن على «تقنين الشريعة» أي تحويل مواريث الفقه الإسلامي إلى مواد قانونية يمكن أن تشترعها البرلمانات! لذلك فإنّ شعار «تطبيق الشريعة» من وجهة نظرهم ليس خيالاً أو توهُّماً. وائل حلاّق يرى أن الدين لا يمكن أن يتحول إلى قانون، بل إنّ القانون في الدولة الحديثة هو الذي يحل محل الدين أو الشريعة عملياً. وهو إذ نجح في إدارة الدول الحديثة، ما نجح في إزالة الدين أو إدارته وإخضاعه. لذلك فهو يتابع المحاولة، واعتماده في ذلك على الكراهية التي يثيرها القاعديون والداعشيون في مجتمعات المسلمين وفي العالم، باعتبارهم دُعاة تطبيق الإسلام! ثم إنه من جهة أُخرى، أي رجل الدولة العلماني، ينفي أنهم يتآمرون على الدين! إنه نقاشٌ مهمٌّ في زمن تتصدع فيه الدولة الوطنية في مجالنا، ولا يستطيع القاعديون والداعشيون الحلول محلَّها!