تسعى دول الاتحاد الأوروبي جاهدة الآن لإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني، في موقف سياسي آخر يظهر الاختلاف المتفاقم في المقاربة السياسية الدولية بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، ويضع هذا الموقف أوروبا في صف روسيا والحلف الآخر، بعد تمسكها بالاتفاقية على رغم معرفتها بما فيها من ثغرات كبيرة وجوانب قصور كثيرة. ولعل التفسير الأقرب لهذا التغريد الأوروبي خارج السرب الدولي، هو رغبة الأوروبيين في الاستئثار ببعض المكاسب الاقتصادية من خلال الانخراط والاستثمار في إيران، وقد تسابق الأوروبيون عند توقيع الاتفاق لإيجاد موطئ قدم لشركاتهم واستثماراتهم في السوق الإيرانية. ولكن السؤال الأهم الذي يطرح الآن: هل تستطيع الدول الأوروبية الحفاظ على استثماراتها في إيران، وأن تجعلها في مأمن من العقوبات الأميركية التي ستطال كل من يضع يديه في يد طهران؟ وهل أوروبا مستعدة لتحمل التبعات السياسية والأخلاقية لهذا القرار أمام بقية المجتمع الدولي، وأمام شعوبها هي أيضاً؟ وهل منطق المصالح الاقتصادية يمكن أن يغطي على تبعات الانتهازية السياسية؟ وفيما يخص المصالح الاقتصادية فقد تسرعت أوروبا كثيراً، في اندفاعها نحو إيران. فبعد الاتفاق النووي المعيب استقطبت طهران نحو 12 مليار دولار من الاستثمارات الأوروبية، وقد استثمرت ألمانيا نحو 3.9 مليار دولار، وكذلك فرنسا، فعلى سبيل المثال نمت التجارة الفرنسية الإيرانية بنسبة 118% من يناير إلى أكتوبر 2017، مقارنة بالفترة الزمنية نفسها من العام السابق. كما أبرمت شركة النفط الفرنسية «توتال» صفقة قيمتها حوالي 4.8 مليار دولار لتطوير أكبر حقل غاز في العالم بجنوب الخليج العربي على مدى 20 عاماً، وأبرمت إيرباص صفقة لبيع 100 طائرة إلى إيران تقدر قيمتها بنحو 18 مليار دولار. وهذا هو ما جعل الاتحاد الأوروبي يسعى بكل الطرق لثني الرئيس ترامب عن الانسحاب من الاتفاق النووي. وهذا بدل أن تعمل أوروبا في الاتجاه الآخر بالضغط على النظام الإيراني لقبول اتفاق نووي جديد بشروط أكثر حزماً وتماشياً مع المطالب الأمنية للمنطقة والعالم بأكمله. وهذا المقترح الجديد لاتفاق معدل ومحسّن وأكثر حزماً وفاعلية ربما يكون هو طوق النجاة للدول الأوروبية حتى لا تتفاقم الخسائر عليها، فتخسر السوق الأميركية أيضاً بفعل العقوبات في الوقت ذاته. وبموجب الاتفاق النووي السابق اندفعت الشركات الأوروبية للقيام بأعمال في إيران، والآن تضغط على حكوماتها لمنع انهيار الصفقة، ويمكن لأوروبا وغيرها من الدول المهتمة بالاتفاق التمسك به، ولكن هذا القرار سوف تكون له آثار خطيرة على العلاقات عبر الأطلسي، في وقت يواجه فيه ترامب أصلاً خلافاً مفتوحاً مع العديد من حلفائه حول الإنفاق الدفاعي، والتجارة، واتفاقية المناخ وقضايا أخرى كثيرة. وإذا اختارت أوروبا الالتزام بالاتفاق، فإنها ستقف صراحة ضد الولايات المتحدة. وقد حاولت طهران قبيل انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الترويج والادعاء بأنها غير قلقة بشأن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق، وأن ذلك لن يؤثر عليها، ولكن بالعكس فآثاره عليها وخيمة، وقد جعل النظام الإيراني يطأطئ رأسه من شدة العواقب المتوقعة التي ستتعرض لها طهران من القرار. فلن يكون بمقدور إيران تصدير أو استيراد الأسلحة، كما ستظهر قوائم سوداء تضم أسماء أفراد وشركات وبنوك كانت متهمة في السابق بانتهاك القوانين الأميركية. ولن تتمكن طهران من استيراد قطع غيار للطائرات والسفن لتحديث أسطولها الجوي والبحري، وستُحرَم من صفقات تجارية خارجية ضخمة كانت تعوّل عليها لإنعاش اقتصادها الذي يعاني بالفعل من مشاكل عدة تسببت مؤخراً في خروج تظاهرات كثيرة إلى الشوارع. وليس هذا كل شيء، فسيعاني أيضاً قطاع النفط الإيراني الذي يشكل أبرز مصدر للدخل في البلاد من إعادة فرض العقوبات عليه، وقد كان بحاجة ملحة لدعم من شركات أجنبية لتطويره من أجل زيادة إنتاجه، هذا غير المستوردين الذين سيتوقفون عن استيراد النفط الإيراني. وستلجأ بعض الدول لشرائه في السوق السوداء بثمن بخس، كما كان في السابق. وأيضاً، لن تتمكن إيران من جذب استثمارات أجنبية، كما سيتم تجميد أية أموال لطهران في الخارج، خصوصاً في الولايات المتحدة. وهناك ما هو أخطر بكثير، فقد كان الاتفاق هو الضمانة الوحيدة لعدم تصعيد الموقف ضد طهران، ولكن انسحاب الولايات المتحدة منه قد يجعل الأمر وارداً، وخاصةً إذا ما أعلنت إيران أنها ستعود إلى تخصيب اليورانيوم، ومعاودة نشاطها النووي. ومع أن دوافع أوروبا واضحة في التمسك بقشة الاتفاق النووي، حفاظاً على مكاسب اقتصادية، إلا أن مقاربتها لا تحمل أيضاً إجابات لأسئلة المنطقة وبقية العالم، وخاصة أن النظام الإيراني مستمر في تهديد الاستقرار الإقليمي، ومستمر في تمويل المليشيات والجماعات الإرهابية، ومستمر في انتهاك روح الاتفاق نفسه ببرامجه الصاروخية وغيرها، ومن ثمّ لا تتوقع شعوب المنطقة، وشعوب العالم، وشعوب أوروبا نفسها، أن يكون الأوروبيون شركاء لنظام هذه ممارساته، ولا مدافعين عن اتفاق معيب ونتيجته الوحيدة هي تأجيج وتهييج كل أسباب التوتر وعدم الاستقرار على الصعيدين الإقليمي والدولي معاً.