مرت أربعة عقود تقريباً على ذلك التاريخ الذي ردد فيه «دانيال باتريك موينيهان» مستشار الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون مقولة اكتسبت شهرة كبيرة وقتها وهي: «لقد أصبح الحزب الجمهوري، فجأة، حزباً للأفكار». وهذه المقولة لا تزال صالحة حتى اليوم، مع تعديل واحد: في هذه الأيام، وهو أن «الجمهوريين» اليوم باتوا حزباً لأفكار شبه ميتة كان يجب أن تموت منذ فترة طويلة، ولكنها تستمر في الحياة مع ذلك، لتواصل أكل أدمغة السياسيين. أهم هذه الأفكار شبه الميتة، هو إصرار الجانب المؤمن بـ«اقتصادات العرض» على أن خفض الضرائب على الأغنياء، ينتج معجزات اقتصادية مؤكدة، وأن رفع الضرائب عليهم، يؤدي إلى نتيجة عكسية ويعتبر وصفة لكارثة محققة. ويؤكد اختيار دونالد ترامب لشخصية مثل «لاري كادلو» لرئاسة المجلس الاقتصادي القومي، أن فكرة الإعفاء من الضرائب لم تمت بعد، وأنها ما زالت قادرة على الاستمرار. فبالنسبة لكادلو، وهو من أشد المؤمنين بالفضائل اللامحدودة للتخفيضات الضريبية، على الرغم من سجل هذه التنبؤات المستندة إلى هذه الاعتقاد، التي أدت كما كتب «جوناثان تشيت» في «نيويورك تايمز مجازين» ذات مرة:«إلى ترقية الأخطاء الفادحة إلى شكل من أشكال الفن الأدائي»، مع ذلك، يمكن القول إن السياسة الاقتصادية، تتعلق بما هو أكثر من الضرائب. فما يبدو أمامنا الآن هو أن ترامب نفسه، رغم رغبته في التوقيع على أي تخفيضات ضريبية يرسلها الكونجرس، بات يظهر راهناً اهتماماً أكبر بالسياسة الدولية، ولا سيما الشرور المفترضة للعجز التجاري. وهذا تحديداً هو المكان الذي تغدو الأشياء عنده مثيرة للاهتمام. فما نراه الآن هو أنه بعد أن غادر «العولميون» مثل جاري كوهين، فريق ترامب، فإن كل الأشخاص الذين ينصحونه في مجال الاقتصاد الدولي- شأنهم في ذلك شأن من ينصحونه حول كل شيء آخر- باتوا أسرى للأفكار شبه الميتة التي أشرنا إليها آنفاً. لكن هناك أكثر من نوع واحد من الأفكار شبه الميتة. في الواقع، هناك مجموعتان من هذه الأفكار – كلاهما على خطأ، ولكن بطرق مختلفة- متعاكسة تقريباً. فمن جانب، لدينا أنصار المدرسة التجارية الجديدة (النيو- ماركنتيلية) -مثل بيتر نافارو، قيصر ترامب التجاري- الذين ينظرون للتجارة العالمية على أنها قصة للفائزين والخاسرين: فالبلدان التي لديها فوائض تجارية تربح، وتلك التي تعاني من العجز التجاري تخسر. يقول المنطق والتاريخ إن هذا الرأي محض هراء، وإن الفوائض التجارية غالباً ما تكون علامة على الضعف، كما قد يكون العجز التجاري في بعض الأحيان علامة على القوة. علاوة على ذلك نرى أن الميركانتيليين الجدد يرتكبون أخطاء فادحة، مثل سوء فهم الكيفية التي تعمل بها ضرائب القيمة المضافة. مع ذلك، فإن مثل هؤلاء الأشخاص هم الذين باتوا يتحكمون فيما يسمعه ترامب وما لا يسمعه. وهم يخبرونه فقط بما يريد أن يسمعه فقط. لكن واجب الإنصاف يتطلب منا القول إن هؤلاء الناس ليسوا هم الفصيل الوحيد الذي ينطق بهذا الهراء الخطير، فيما يتعلق بشؤون الاقتصاد الدولي. ففي الواقع، أن إدارة ترامب باتت موطناً لمجموعة من الاقتصاديين الذين يعتقدون أن قوة الدولة تقاس بقوة عملتها، ويرفضون رؤية أي جانب سلبي في الدولار القوي، ولا يرون أي سبب يدعو للحاجة إلى دولار ضعيف. حتى الآن، كان أبرز المؤمنين بهذا الرأي- قوة الدولار- في الإدارة الأميركية هو «ديفيد مالباس»، وكيل وزارة الخزانة للشؤون الدولية، والذي شغل في السابق منصب كبير الاقتصاديين في بنك «بير ستيرنز» الشهير للاستثمارات المالية والمضاربات التجارية، وهو رجل لديه سجل شبيه بسجل «كادلو»، في ارتكاب الأخطاء دائماً، ففي عام 2011، على سبيل المثال، كتب «مالباس» مقالاً افتتاحياً قال فيه إن ما تحتاج إليه الولايات المتحدة لإصلاح مشكلاتها الاقتصادية هو الدولار القوي (وأسعار الفائدة الأعلى). لقد كان ذلك إدعاءً غريباً، في ذلك الوقت الذي كان فيه معدل البطالة لا يزال عند نسبة 9 في المئة - وكان الدولار القوي من شأنه أن يجعل الأمور أكثر سوءاً، لأنه كان سيجعل المنتجات الأميركية أقل قدرة على المنافسة، ويزيد من العجز التجاري، ويؤدي في الآن ذاته لاستمرار البطالة. وإليكم ما يلي: يبدو أن «كادلو» يشارك «مالباس» في رؤيته العالمية، حيث كان أول تصريح جدير بالملاحظة يدلي به، بعد إعلان ترامب عن اختياره، هو تصريح دعا فيه لرفع سعر الدولار، وهو أمر من شأنه أن يفاقم العجز التجاري، الذي يعتبره ترامب نفسه دليلاً على ضعف أميركا. وعلى المستوى الاقتصادي العالمي، تبدو إدارة ترامب وكأنها تتجه نحو معركة يحتدم فيها الصراع بين مجموعتين من الأفكار شبه الميتة، ترفض كل منهما أن تموت. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»