هل كانت روسيا في حاجة إلى قيصر أم إلى مُخلّص؟ أغلب الظن أن الروس اعتبروا ولايزالون فلاديمير ببوتين الأمرين معاً، قيصر يعيد إحياء عظمة البلاد الروسية، ومُخلّص يرفع عنهم أوزاراً ثقيلة يتعين على الشعب دفع ثمنها، وما نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلا خير دليل على ثقة الروس المتعاظمة في الرجل. حين تسلم بوتين رئاسة الوزارة من قبل «يلتسين» كانت الدولة العظمى قد بلغت حضيض المهانة عبر أزمات عدة رصدها الثعلب بوتين الآتي من الاستخبارات السوفييتية الشهيرة «كي. جي. بي»، ولم يكن أحد يدري ما يدور بخلده، أو ما الذي يخططه للمستقبل، ووراءه حروب الشيشان والتعثر المالي والتضخم، وقبل كل هذا وبعده، نسيج اجتماعي متفكك، ومواطنون كادوا أن يفقدوا الثقة في الوطن لولا قبس من نور ظهر على حين غرة وسطع من دون استئذان من رجالات الحزب القديم الشيوعي الحاكم قديماً. أحد أهم الأسئلة التي طرحتها إعادة انتخاب بوتين رئيساً للمرة الرابعة، كان يدور حول علاقة الأزمة الأخيرة مع بريطانيا بسبب الجاسوس «سكريبال»، والطريقة التي تعاطت بها الدوائر الغربية مع موسكو، وهل جاءت ردات فعل الروس لتوجه صفعة قوية للدوائر الإمبريالية التي لا تألو جهداً في مواجهة بوتين الناهض بروسيا كما العنقاء من الرماد؟ الراسخون في العلم يدركون أن الروس قومية ضاربة الجذور تاريخياً والإحساس الوطني لديهم لا يعلوه شيء، والمؤكد أن الهجمات الخارجية تخلق عندهم شعوراً قومياً عالياً يستدعي معين التحدي والتصدي المعروفان عن الروس من انكسار نابليون بونابرت إلى وقت هزيمة أدولف هتلر. أظهر الروس تعاضداً غير مسبوق ليحقق بوتين نتيجة هي الأفضل في تاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، فقد صوّت 56 مليون مواطن روسي لصالحه وحطم رقمه القياسي السابق للعام 2004 حين صوّت له 49 مليوناً وستمائة ألف شخص. فعلها الغرب بالفعل مرة أخرى، وعوضاً عن أن يزيح مقاتلاً صنديداً من طريقه عزز حضوره، الأمر الذي عبر عنه «أندريه كوندراشوف» المتحدث باسم حملة بوتين بقوله:«تعرضنا للضغوط في اللحظة عينها التي كنا بحاجة فيها إلى حشد المصوتين، وكلما اتهمت روسيا بشيء عشوائي ودون أي دليل، اتحد الشعب الروسي حول مركز السلطة، ومركز السلطة اليوم هو بالتأكيد بوتين». القارئ المحقق والمدقق لخطاب الفوز الذي ألقاه بوتين عقب إعلان النتيجة يدلل على أن السنوات الست القادمة ستكون مصيرية فيما خص روسيا أولاً، والعالم تالياً، لا سيما وأن الغرب لم يستمع من قبل إلى بوتين، وأن استمع فقد تجاهل فحوى خطابه السابق. يدرك بوتين أن هذه الدورة الرئاسية ستكون الأخيرة له، ما لم يسع الروس سعي الصينيين، بمعنى أن يغير البرلمان الروسي الدستور الذي ينص على عدم جواز البقاء في السلطة لأكثر من فترتين متتاليتين. ومع انتهاء الولاية الرابعة الحالية لبوتين سيكون قد بلغ من العمر الحادية والسبعين ليضحى الرمز التاريخي الثاني في طول مدة البقاء في الكريملن بعد جوزيف ستالين، وعليه، فإنها الولاية التي سيسعى فيها إلى «مستقبل عظيم لوطننا»، على حد تعبيره، ما دعا الجماهير لأن تردد من خلفه «روسيا.. روسيا». لكن علامة الاستفهام عبر أي طريق سيعمل بوتين على جعل المستقبل عظيم لبلاده؟ الجواب يأخذنا في طريق الحديث عن القوتين الناعمة والخشنة، وقد يخيل إلى البعض أن مسار بوتين هو القوة المسلحة الخشنة بشكل مطلق، وهي في كل الأحوال أحد دروب بوتين لردع الآخرين، وقد أجاد بالفعل في هذا السياق، وكان خطاب الترشح للرئاسة أو «خطاب الأمة» في الأول من مارس الجاري حاملاً صوراً وإثباتات وأفلاماً لأسلحة فائقة السرعة ومتجاوزة للصوت وصواريخ جهنمية، ما أنزل الله بها من سلطان مثل الصاروخ «سارامات» الحامل لعشرة رؤوس نووية في وقت واحد. غير أن الحقيقة الأهم هي أن بوتين مهموم ومحموم بما هو أهم، فسعيه الدؤوب الآن من أجل أحوال الروس في الداخل وكيفية تحسينها، ولهذا تحدث خلال اجتماع مع رؤساء حملته الانتخابية موضحاً أولويات ولايته الرابعة، وفي المقدمة منها ضمان نمو الاقتصاد الروسي ومنحه طابع الابتكار، بالإضافة إلى تطوير مجالات الرعاية الصحية والإنتاج الصناعي. ثعلب الاستخبارات الروسية السابق ورئيسها لمدة رابعة يدرك جيداً أن الأميركيين والأوربيين لن يتركوه وبلاده في حال سبيله ليمضي في مشروع نهضة عملاقة جديدة، كديدنهم مع بقية التجارب الأممية حول العالم، ويثق بأنهم سيحاولون استدراجه إلى سباق تسلح مهلك لموازنته، وحديث حرب الفضاء يردده الأميركيون من جديد هذه الأيام. في هذا السياق سيكون الكيف عوضاً عن الكم، فيما سيهتم بقضايا الصحة والتعليم والعلوم والبنية التحتية لبلاده.. بوتين يؤمن بأن الإنسان الروسي هو القضية وهو الحل، وأن رفاهية شعبه هي الهدف الأسمى لوطن يليق بكرامة الروس. الخلاصة: بوتين قيصر في الداخل ومنقذ ومخلص لأمته في الخارج. *كاتب مصري