صدرت في السنوات الأخيرة صحف أسبوعية مخصصة للحوادث والقضايا المتداولة في ساحات القضاء، إلى جانب الصفحات الثابتة في الجرائد اليومية، تنقل حوادث القتل ذبحاً وخنقاً ورمياً بالرصاص أو من الطوابق العليا. ويتضح من تحقيقات القضاء أن القتيل والقاتل من الأقرباء أو الأصدقاء أو الجيران. ويصل حد القرابة إلى الأبوة والأمومة والبنوة. فالرجل يقتل أبناءه أو زوجته أو أمه أو أباه أو جاره أو صديقه أو زميله في العمل. ويقتل الشخص شخصاً آخر لخلاف على السعر أو لمجرد خلاف في الرأي على المقاهي. فما أسهل استعمال السلاح الأبيض المطمور في الجيب! كما يقتل المخالف في الرأي على الكرة، والانتساب إلى الأندية، ويتحول القتل الفردي إلى مذبحة جماعية ثأرية. وكما يقتل الأب أولاده الكثر بسبب الفقر أو المرض والعجز عن العلاج وشراء الدواء، فقد انتشرت ظاهرة تجارة الأعضاء، ليس فقط أعضاء الموتى، بل أيضاً أعضاء الأحياء. فما الضرر في أن يبيع الفقير كلية واحدة ويعيش بالأخرى؟ قد يكون السبب كراهية الحياة وتفضيل الموت عليها، والهروب من الدنيا للعجز عن مقاومة ما فيها من أحداث. وقد يكون السبب الإحساس بالعار والدفاع عن الشرف، كما يحدث في الريف المصري. ولا يختلف القتل في الريف بسبب الخلاف على الأرض عن الخلاف في المدينة بسبب السرقة. فكل طرف يخطِّئ الآخر ولا يطيق له حياة. وما أسهل القتل في حالة المعركة الكلامية وتحويلها إلى معركة بالسلاح الأبيض أو الناري؛ إذ تبدأ كلامية وتتطور إلى سب ولعن، ثم تتحول إلى عراك بالأيدي يأخذ مداه؛ فيخرِج كل منهما سلاحه ليقتل الآخر بضربة أو طلقة واحدة. ولا يفكر فيما ينتج عن ذلك؛ سجن مؤبد وربما الإعدام. ولا يهدأ الانفعال إلا إذا رأى القاتل عدوه ملقى على الأرض مضرجاً بدمه، فيثبت لنفسه وللحارة أنه رجل الرجال وبطل الأبطال. والقاتل لا يبكي ولا يحزن ولا يهرب، بل يُقبض عليه مرفوع الرأس مودعاً الأهل والأصدقاء. أما أهل القتيل فيستعدون للأخذ بالثأر، ولا ينتظرون القصاص، فلا أحد يعترف بالقانون بل فقط بالتقاليد والأعراف. والقاتل لا ينتحر. هكذا إذن تم القتل بكل سهولة، وهو قتل لا يدل على شجاعة القاتل أو جبن المقتول. وقد حذّر القرآن الكريم من قتل الأطفال: «وَإِذَا ?الْمَوْءُودَةُ ?سُئِلَتْ، ?بِأَيِّ ?ذَنْبٍ ?قُتِلَتْ». ?وفي وقتنا الحالي هناك ?جمعيات ?للرفق ?بالحيوان، ?ولم ?تنشأ ?بعد «?جمعية ?الرفق ?بالإنسان» ?أو «?جمعية ?الرفق ?بالطفل»?! ?وقد ?رُوي ?عن ?الرسول ?الكريم قوله: «?عُذّبت امرأة في هرّة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها ولا سقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»?. ?والأب ?لا ?يطعم ?أولاده ?الجياع ?ولا ?يتركهم ?يأكلون ?من ?خشاش ?الأرض، بل ?يقتلهم ?ليتخلص ?من ?واجباته ?نحوهم! فهل الضيق يدفع إلى قتل الأهل والأقرباء، أم يؤدي إلى الغضب والدفاع عن الحقوق؟ والسؤال الأهم: لماذا انعدمت العواطف الإنسانية في نفس الأب القاتل؟ لماذا لم يرحم أطفاله وهم يصرخون عندما يرون السكين بيده تقترب من رقابهم؟ ألهذا الحد انعدمت العواطف لدى الأب فلم يعد إنساناً، بل أصبح «داعشياً» يقتل باسم الشرع؟ وهل الجوع يؤدي إلى الموت أم يؤدي إلى الثوران والغليان؟ وأيهما أفضل؛ إماتة الأحياء أم إحياء الأموات؟ لذلك جعلت الشريعة القصاص أي إعدام القاتل حياة: ‏«وَلَكُمْ ?فِي ?الْقِصَاصِ ? حَيَاةٌ»، ?وجعلت ?«الْمَالُ ?وَالْبَنُونَ ?زِينَةُ ?الْحَيَاةِ ?الدُّنْيَا». ?فكيف ?يقتل ?الأب ?أبناءه ?ولا ?يسعى ?إلى ?المال ?بشتى ?الطرق ?حتى ?يحتفظ ?بزينتي ?الحياة ?الدنيا؟ ?يبدو ?أن ?الضيق ?بالحياة جعل ?الأب ?يفضل ?الموت ?عليها. ? *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة