لعل «ريتشارد هاس» يبقى أحد أنضر العقول الأميركية التي قُدر لها أن تستشرف تغيرات الأوضاع وتبدلات الطباع السياسية حول العالم، وهو المفكر والمنظر، الدبلوماسي والكاتب الرصين، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي السابق، أحد أهم مراكز التفكير في الولايات المتحدة الأميركية. في عام 2005 أصدر «هاس» كتابه «الفرصة»، ووقتها كانت الولايات المتحدة لا تزال تعيش مغامراتها في أفغانستان والعراق، سائرة على درب «المحافظين الجدد» ووثيقتهم الشهيرة (‏PNAC)، ?والتي ?بلورها ?غلاتهم ??عام ?1997، ?وهي ?تدعو ?باختصار ?غير ?مخلٍ ?إلى ?بسط ?السيطرة ?ومد ?النفوذ ?الأميركي ?على ?سائر ?أرجاء ?المعمورة. في كتابه «الفرصة» كان «هاس» يشير على الأميركيين نخبة وعواماً، بضرورة ملحة وحاجة يقينية إلى تحقيق التعاون والتكامل الدوليين، انطلاقاً من فرضية القوة المفرطة لدى واشنطن، وإنْ رأى أنها ستبقى قوة ناقصة إن مضى الأميركيون بمفردهم حول العالم، فالمجابهات الدولية تحتاج إلى شراكات وقوى مجتمعية للتغلب على النوازل. في ذلك الوقت ذهب «هاس» إلى أنه لا ينبغي على الأميركيين انتظار حدوث الأزمة القادمة، بل عليهم الجلوس مع قوى العالم الكبرى كالصين واليابان وأوروبا، علاوة على الهند ورسيا، وإلى حد ما البرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا للتشاور، وتحديد قواعد عمل مشتركة للعالم. غير أن الحقيقة التي يتذكرها القاصي والداني هي أن إدارة جورج بوش الابن مضت وراء الهواجس العقائدية المغشوشة، عطفاً على السير في ركاب أصحاب المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الحاكم الحقيقي للبلاد، لتنتهي الولاية الثانية لبوش الابن، من دون أدنى التفاتة لنصائح «هاس»، ما كلف الإمبراطورية الأميركية المنفلتة «والتعبير للمؤرخ الأميركي الكبير «بول كيندي» ما يمكن أن نسميه «تكلفة الفرصة البديلة أو الضائعة»، بحسب علم الاقتصاد، وقد كان من جراء ذلك أن ترتبت حقائق عدة، نذكر البعض منها: ** بداية لن يصبح القرن الحادي والعشرون قرناً أميركياً بامتياز، حسب شهوة قلب «المحافظين الأميركيين»، كما أنه لن يضحى قرن القطب الواحد، بل زمن الأقطاب المتعددة، وبهذا ينتهي «النظام العالمي الجديد»، الذي بشر به جورج بوش الأب غداة انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينات القرن الماضي. ** مبكراً لفت «هاس» النظر إلى أن النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط سوف يتقلص، وإنْ احتفظت واشنطن بدرجة ما، لكنها لن تبقى سيدة المنطقة كما كانت الحال من قبل، وقد نبه إلى أن لاعبين آخرين سيظهرون ويظاهرون على الدور الأميركي، ما نراه الآن من دور روسي متنامٍ بالفعل، عطفاً على دور صيني يتخفى ويتدثر في عباءة المشروعات الاقتصادية. **كان «هاس» أول من حذر من خطر الإسلام السياسي الذي سيسد الفراغ الثقافي والسياسي السائد في العالم العربي على نحو مطرد، وقال إنه سيشكل مؤسسة لسياسات غالبية سكان المنطقة، فالقومية العربية والاشتراكية أصبحتا من الماضي، والديمقراطية تنتمي إلى المستقبل المنظور في أفضل الأحوال، ولعل السؤال ما الذي يدعونا الآن لنعيد قراءة أوراق ريتشارد هاس من جديد؟ بلا شك كتابه الجديد المعنون «عالم تكتنفه الفوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام». يقدم لنا «هاس» رؤية مخيفة عن عالم تهتز فيه وضعية الولايات المتحدة، مع تبعات واستحقاقات هذا الاهتزاز على مناحي الحياة الدولية كافة، ويجمل رؤيته في عبارة تحتاج إلى فحص وتمحيص شديدين: «لم يعد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة قابلاً للاستمرار بعد انهيار أركانه الأساسية»، ما يعني أن البنية الهيكلية للسياسات الدولية ما بعد العالمية الثانية، وطوال عقود الحرب الباردة، قد أسدل من حولها الستار، وأن العالم يعيش الآن بداية ما يطلق عليه «عصر الفوضى» الذي تسوده التهديدات والتحولات السريعة وغير المتوقعة. هل شارك رؤساء أميركا بعد بوش الابن في الوصول إلى هذا المصير السوداوي للعالم بحسب «هاس»؟ يمكن القطع بأن باراك أوباما، الذي خدع العالم برؤيته عن الأمل والتجرؤ عليه، قد لعب دوراً واضحاً في التهيئة لعصر الفوضى عبر سياساته الإحجامية، عندما كان الأمر يتطلب إقداماً، وقد رآه العالم مؤمناً بنظرية القيادة من خلف الكواليس، وترك الكثير جداً من فراغات القوي ملأها بإقدام وجسارة فلاديمير بوتين، أما عن دوره في إحداث إرباك دولي بتحالفاته العلنية والسرية مع جماعات الإسلام السياسي خلال سنوات ما عرف بـ«الربيع العربي»، وإن كان ربيعاً مكذوباً، فحدث عنها ولا حرج، والعين تغنيك عن طلب الأثر أحياناً. ومن أوباما إلى ترامب، نرى أميركا في حيازة رجل ينادي بالانعزالية بداية، ورفع شعار «أميركا أولاً»، ثم ومن دون ترتيب أو تبرير مسبق يكاد يجر بلاده إلى مواجهات ساخنة من أقصى الأرض إلى أقصاها، ضمن لا رؤية دولية تحكمه أو سياسات استرشادية تهديه سواء السبيل. أفضل ما يقدمه «هاس» في عمله الجديد قرع أجراس الخطر من «الفوضى العالمية»، ولعل الشرق الأوسط مثال على تلك الفوضى، إذ لم تعد هناك قوة مركزية عالمية قادرة على ضبط الأداءات الدولية، عطفاً على اختلال موازين القوى مع ظهور أقطاب دولية جديدة، وإنْ كانت في إرهاصاتها الأولى، وتحول الحروب من حالة الجيوش النظامية إلى حروب الوكالة وعالم الميلشيات، ناهيك عن طاعون القرن أي الإرهاب، وتفاقم إشكالية الهجرة والمهاجرين، وأحوال المناخ المتغير، وانهيار الدول، وعجز النظم الديمقراطية.. عالم من الفوضى القاتلة ويخشى المرء من الأسوأ الذي لم يأت بعد. إميل أمين* *كاتب مصري