يقوم البناء على تصور هندسي كما هو الحال في التصور الهندسي لمكتبة الإسكندرية، الشمس وهي تغرب فوق البحر نصفها وقد اختفى فيه والنصف الآخر ما زال يشرق، مما يدل على حضارة مصر القديمة ومكتبة الإسكندرية المصرية القديمة التي لم تغرب شمسها كلية حتى الآن. وما زالت تشرق. والتصور الهندسي ثقافة وتصور للعالم ورؤية له قبل أن يكون تصوراً هندسياً بالمفهوم العلمي البحت. والثقافة حضارة تعبر عن مرحلة تاريخية بعينها. وقد ينزعج الفنان الحامل للتصور الثقافي للهندسة بما يشاهد من الكتل الخرسانية حول القاهرة، والأبراج العالية حتى في داخلها. وينظر إلى نوافذها فيراها أقرب إلى علب الكبريت. وهو التعبير الشعبي الساخر من واجهات بعض هذه الأبنية الحديثة التي تسمى الإسكان الشعبي أو الإسكان الاجتماعي. لا يسكنه أحد حتى الآن لبعده عن قلب القاهرة، ولنقص خدماته مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي والمواصلات العامة. والنوافذ زوايا حادة أقرب إلى الرسم الهندسي منها إلى التصور الفني، زوايا هندسية عقلية خالية من أي إحساس وجداني بالعالم وبالبيئة. في حين أن القوس العربي الذي لا يكلف شيئاً يعبر عن تصور آخر للعالم، السماء تلتقي بالأرض، والشمس والقمر قوسان. وهو ما يسمى القبة السماوية. فالإنسان يعيش في الأفق الواسع العريض قبل أن يسكن في بضعة أمتار مغلقة. يفنى كل شيء ويبقى القوس العربي في البناء محمولاً على أعمدة رخامية. فيصبح الصرح المعماري أقرب إلى واحة نخيل. وهو غير القوس الروماني الذي تمسكه عقدة في وسطه. تخبئ الشمس، مطلع النور. وهل الإسكان الشعبي أو الإسكان الاجتماعي يقتضي القبح الجمالي والانقطاع الحضاري؟ وبعد ذلك نشكو من سيادة التغريب في حياتنا، أي دخول الثقافة الغربية في رؤيتنا للعالم وفي لغتنا ولباسنا وتقاليدنا. أما المدن الجديدة التي انتشرت حزاماً حول القاهرة يحيط بالعشوائيات وسط وحول القاهرة القديمة، فهي لا علب كبريت ولا أقواساً عربية. هي بين هذا وذاك، بلا طعم أو ذوق أو شخصية أو تواصل تاريخي مع الشرق أو مع الغرب. ينقصها الإبداع الهندسي الذي يتجاوز تقليد القدماء أو التبعية للمحدثين. يتحكم فيها مقدار ثروة أصحابها فحسب. ولا ضير في إضافة حمام سباحة، وأرض للجولف بل ومطار خاص حين العسرة. وهي محوطة بأسوار وعلى بواباتها رجال أمن يحرسونها من الغوغاء أو الجياع أو الغلابة أو «الجرابيع»! وفي الوقت نفسه نحافظ على القاهرة الفاطمية وعلى آثارها في المدينة القديمة حول الأزهر والحسين وشارع المعز لدين الله الفاطمي، ونحاول إخلاءها من سير العربات وتركها للمارة وحدهم. فالتاريخ أصبح متحفاً. ونفخر ببيت السناري وغيره من بيوت الأتراك والمماليك. ونجعلها قصوراً للثقافة يراها الشعب كما يراها السياح. كما نحافظ على القاهرة الخديوية، قاهرة إسماعيل باشا وسط القاهرة التي بناها المهندسون الفرنسيون مثل «هاوسمان». وأقاموا الكباري والتماثيل مثل كوبري قصر النيل وأسده الشبيه بأسد ميدان «دانفير روشيرو» في باريس. وتقوم الدعوات للمحافظة عليها. وفي الوقت نفسه نهدم قصور الإسكندرية التي بناها الأجانب في مصر، والتي تحكي قصة الحضور الأجنبي في مصر مثل «شيكوريل». فالأرض أغلى من القصر. يُهدم القصر ليحل محله برج عالٍ مكون من علب كبريت كما حدث لفيلا أم كلثوم، وأقاموا تمثالاً لها بديلاً عن الفيلا التي هدمتها أيدي بعض التجار والمضاربين الذين أصبح المال والكسب هو الهم الأكبر لديهم. وعندما بنى الفرنسيون مصر الجديدة حرصوا على الطراز العربي الذي ما زال موجوداً في روكسي والكوربة ومركزه القوس العربي. وعندما بنى العرب لم يخرجوا على حدود علب الكبريت. فأصبحت القاهرة مدينة بلا طعم ولا ذوق؛ أي بلا هوية، على عكس المدن التونسية والمغربية. وقد طغت الأبراج العالية لمنافسة مانهاتن في نيويورك. وعندما انتقلت الجامعة الأميركية من وسط القاهرة، حيث كان رمزها القصر القديم بميدان التحرير بجوار بناء حديث من علب الكبريت الزجاجية، انتقلت إلى الصحراء خارج وسط القاهرة. وشيدت مبانٍ حديثة، علب كبريت كبيرة على الأرض لا طول لها ولا عرض. وشيدت الجامعات الخاصة دورها على نفس نمط علب الكبريت. فما يهمها هو الكسب وليس الحفاظ على الشخصية الوطنية. وبُنيت المستشفيات والمدارس على نفس نمط علب الكبريت، فالصحة والعلم لا وطن لهما. وشيدت دور الحكومة أيضاً على نفس النمط مثل مديرية أمن القاهرة بجوار مبنى دار الكتب القديم والمتحف الإسلامي. فلِمَ نشكو من التغريب؟ ولِمَ نشكو اشتداد الحركة الماضوية وهي رد فعل على التغريب؟ وإذا كانت حركة بناء المساجد والقصور قد بدأت أولاً بعد تراكم رأس المال، فأين رأس المال الحالي؟ ----------------- * أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة