يميل المراقبون الغربيون إلى الخلط بين اثنين من المؤيدين البارزين لشعبوية اليمين المتطرف هما: رئيس الوزراء المجري «فيكتور أوربان» ورئيس حزب «القانون والعدالة» الحاكم في بولندا «ياروسلاف كازينسكي»، والذي لطالما وعد بتطبيق «نموذج بودابست في وارسو»، في إشارة إلى «الديمقراطية غير الليبرالية»، التي كشف عنها «أوربان» بلا مواربة في خطاب أدلى به في عام 2014. وفي عام 2016، تفاخر كلا الزعيمين بإعلان «ثورة ثقافية مضادة» داخل الاتحاد الأوروبي. لذا، عندما شدّد الاتحاد الأوروبي موقفه تجاه وارسو في ديسمبر الماضي، تعهد «أوربان» بصورة غير مفاجئة بـ«الدفاع عن بولندا»، في إشارة إلى أنه سيستخدم حق «الفيتو» في مواجهة بروكسل، غير أن تلك النتيجة أبعد ما تكون عن اليقين. وحتى الآن، ربما يكون «كازينسكي» و«أوربان» قادرين على ضمان حصانتهما، طالما أن كل منهما سيعترض على فرض عقوبات أوروبية ضد الآخر. لكنّ ثمة سبلاً للتفريق بينهما. وفي الحقيقة، إذا أراد السياسيون في بروكسل وخارجها وقف التلاعب بهم من قبل حكومتي بولندا والمجر، فعليهم أن يفهموا أولاً نقاط قوة ونقاط ضعف كل من «كازينسكي» و«أوربان»، وفهم الاختلافات الجوهرية بين دوليهما. فعلى النقيض من بولندا، صاحب تركيز القوة السياسية في المجر تركيزاً ملحوظاً للثروة، إذ أن الأصدقاء المقربين من «أوربان»، والذين أسس معهم حزب «فيديسز»، أصبحوا الآن من بين أثرى الأثرياء في المجر. وبفضل العقود الحكومية، قفز عمدة «فلكوست»، مسقط رأس «أوربان» وصديق طفولته، إلى المرتبة الخامسة في قائمة أثرى أثرياء المجر. ومن بين المستفيدين الآخرين من حكم «أوربان» صديقه «ستيفان جارانكسي»، الذي تضاعفت ثروته ثلاث مرات منذ تولي «أوربان» السلطة في عام 2010، و«ستيفان تيبوركز»، وهو نسيب رئيس الوزراء. وأما في بولندا، فلا تقوم الحكومة بتحويل الأصول الحكومية إلى حسابات البنوك الخاصة لحاشية «كازينسكي». وعلى مؤشر «الشفافية الدولية» لـ«مدركات الفساد»، لا تزال بولندا تحتل المركز التاسع والعشرين حتى 2016، بينما تدهورت مرتبة المجر على القائمة إلى السابعة والخمسين بصحبة دول مثل رومانيا وكوبا. وعلاوة على ذلك، تم بالفعل إضفاء طابع من الشرعية على «الديمقراطية غير الليبرالية» التي ينادي بها «أوربان»، في حين أن نظام «كازينسكي» لم يحصل على دعم مماثل في بولندا. ولا يحتاج «أوربان» إلى انتهاك الدستور المجري لأن لديه قاعدة تأييد أكبر بكثير من أي تأييد حصل عليه «كازينسكي» يوماً. ولعل ذلك أفضل تفسير لاستعداد الاتحاد الأوروبي استخدام المادة السابعة لمعاقبة حكومة بولندا، من دون حكومة المجر، التي تقدمت بدرجة أكبر على طريق تعزيز مشروعها غير الليبرالي. فقد بلغت مستويات تأييد حزب «فيديسز» 70 في المئة في استطلاعات الرأي، وأما في بولندا، فمثل هذه النتيجة لا يمكن تصورها، ففي أوجّ شعبية حزب «القانون والعدالة» لم تزد معدلات التأييد على 47 في المئة، وفي الانتخابات لم يحصل على أكثر من 38 في المئة من الأصوات. وفي هذه الأثناء، لدى «أوربان» ركيزة أفضل بكثير لتأجيج النزعات القومية، إذ أن المجر بها سكان من عرقية «الروما» تتراوح أعدادهم بين 450 ألفاً ومليون نسمة، ومن المتوقع أن تصل هذه العرقية إلى 15 في المئة من سكان الدولة بحلول 2050. وتقبع المجر في منتصف طريق اللاجئين إلى أوروبا، وهي حقيقة استغلها «أوربان» بلا هوادة لترويج النزعات المناهضة للمهاجرين. وعلى النقيض من ذلك، لا تزال بولندا أكثر الدول تجانساً في أوروبا، من دون أقليات عرقية كبيرة يمكن التحدث عنها، باستثناء تدفق الأوكرانيين مؤخراً، في حين أن أوربان لديه جاليات في الخارج يمكنه حشدها، ويمكنه التعويل على ملايين المواطنين في رومانيا وسلوفاكيا وأوكرانيا وصربيا، ممن لديهم أصولاً مجرية، ويمكن أن يصبحوا منجم ذهب انتخابي لحزب «فيديسز». ومن السهل تجيش مشاعر القومية في ظل ذلك التنوع الديموغرافي، وليس من قبيل المصادفة أن «أوربان» سنّ قانوناً يمنح امتيازات كبيرة للمجرين الذين يعيشون في الخارج. وأخيراً، يمكن لـ«أوربان» أن يبتز بروكسل، مستعيناً بمخاوف الاتحاد الأوروبي من غريمه حزب «جوبيك» اليميني المتطرف، والذي يدعي «أوربان» تحجيمه. وتبدو المعارضة المجرية عاجزة بسبب حقيقة وجود استقطاب سياسي، فأكبر حزبين يوصمان بعضهما بعضاً بـ«الشيوعية». ويضمن ذلك الانقسام أن المعارضة لن تستطيع تحدي الحزب الحاكم. لكن برغم كل ذلك النجاح الذي حققه «أوربان» في تعزيز سلطته، إلا أن المجر لا تزال تعتمد اقتصادياً بشكل كبير على الغرب، وهو ما يمنح الاتحاد الأوروبي نفوذاً. ويعتمد الاقتصاد المجري على الصادرات، في حين أن الاقتصاد البولندي يرتكز على الصادرات والاستهلاك المحلي، إذ أن السوق المحلية في بولندا أضعاف حجم نظيرتها في المجر، لأن البولنديين أربعة أضعاف نظرائهم المجريين. وليس من قبيل المصادفة أن «أوربان» زار حلفاءه القريبين أيديولوجياً في ظل قيادة «الاتحاد الاشتراكي المسيحي»، الحزب الشقيق لحزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في ولاية «بارفاريا» الأسبوع الماضي. وتعتبر ألمانيا أكبر شريك اقتصادي للمجر، وتستقبل زهاء 30 في المئة من صادرتها، كما أن واحدة من كل ثلاثة وظائف مجرية جديدة توفرها شركة ألمانية. ويعني ذلك أن ألمانيا بمقدورها ممارسة ضغوط هائلة على المجر بطريقة لا يمكن أن تقارن مع بولندا. والأكثر أهمية أن أوربان «انتهازي مؤدلج»، في حين أن «كازينسكي» مخلص في معتقداته، فقد بدأ «أوربان» عمله بطرد الروس من المجر في عام 1989، وأما اليوم، فهو واحد من أكثر السياسيين المؤيدين لروسيا في الاتحاد الأوروبي. وبرغم أن حياة «كازينسكي» المهنية مرت بمنعطفات ومنحنيات كثيرة، إلا أنه لم يبد أي ولاء للرؤية البولندية المتجذرة في تاريخ الدولة بدرجة يصعب على كثير من المراقبين الغربيين فهمها. وينتمي رئيس حزب «القانون والعدالة» البولندي إلى «طبقة نبلاء المحافظين»، التي أدت إلى تفكك بولندا في القرن الثامن عشر. وتراجعت بولندا من وضع «شبه قوة عظمى» إلى دولة تابعة لروسيا بسبب النخب السياسية التي قوضت النظام من داخله، بعد أن كانت بولندا أكبر دول أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأكثرها تسامحاً وديمقراطية، وإن كانت المشاركة السياسية مقصورة على النبلاء. وأضحت بولندا في الوقت الراهن تمضي مرة أخرى في اتجاه خطير، إذ تنكفئ على نفسها، وتعزل نفسها عن العالم، ولم تعد موطناً للتسامح، وتنسحب من الشؤون الخارجية. وفي حين يبدو «كازينسكي» متعصباً، يبدو «أوربان» مجرّد سياسي انتهازي، وبالنسبة لـ«كازينسكي» تعتبر البراجماتية دلالة على الخيانة أو الضعف، أما بالنسبة لـ«أوربان» فهي جوهر السياسة. فالقادة البراجماتيون لا يعملون بصورة عامة ضد مصالحهم، ولا يقدمون أبداً على انتحار سياسي. ولذلك السبب، لا ينبغي أن يُعوّل «كازينسكي» على مساعدة «أوربان» عندما تشد بروكسل الوثاق، لأنه إذا هددت عرقلة المجر لإجراءات الاتحاد الأوروبي ضد بولندا، تدفق الأموال الأوروبية إلى بودابست، فإن أوربان لن تكون لديه مصلحة في الدفاع عن بولندا. ولا تشكل المادة السابعة من ميثاق الاتحاد الأوروبي تهديداً على «أوربان»، فهو لم يُعاقب بعد، ولن يعاقبه أحد بأثر رجعي إذ تخلى عن تأييد «كازينسكي» في مقابل سلامته السياسية. وعلى أي حال، فقد خان من قبل «شقيقه السياسي» البولندي برفضه رغبات «وارسو» ومساعدته في انتخاب «دونالد تاسك»، المنافس المحلي السابق لـ«كازينسكي»، كرئيس للمجلس الأوروبي لدورة ثانية. وفي حين لا يمكن هزيمة «أوربان» في المجر، ولا «كازينسكي» في بولندا، فإنه يمكن لبروكسل أن تفكك تحالفهما، عندما تدرك أن «كازينسكي» لن يتزحزح، بينما يمكن الضغط على «أوربان». سلاومير سيراكوفسكي* * مدير «معهد الدراسات المتقدمة في وارسو» يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»