في منتصف التسعينيات أصدر الكاتب المشهور في «نيويورك تايمز» توماس فريدمان كتاباً قيماً بعنوان «لكزس وشجرة الزيتون»، حول خلاصة تأثير العولمة، التي كانت في بدايتها، في العمق الفلسطيني، وذلك من حيث استخدام هذا الشعب المحاصر من طرف الاحتلال كل متطلبات العولمة في واقعه اليومي، حتى في غزة الركن الأضعف في القضية برمتها. اليوم أعاد ترامب قضية القدس قلب فلسطين، بل قلب العالم العربي والإسلامي منذ قرون، وهي المرة الثانية التي يصعد فيها ترامب نبرته بشأن القضية الفلسطينية إجمالاً من ناحية صفقة القرن التي وعد بها في بداية ولايته التي لم تكمل بعد سنتها الأولى، وهو بانتظار النتائج النصفية المقبلة. ولكنه لم يراعِ حساسية موضوع القدس التي أعلن عنها عاصمة لإسرائيل واستعداده لنقل السفارة الأميركية إلى هناك، كما قيل خلال الثلاث سنوات القادمة، ومن يضمن أن تبقى الأرض المتحركة أرض الإسراء والمعراج جامدة أو تحسبها كذلك. القدس، أقدس قضية دينية، بحاجة إلى حل ديني وليس سياسياً، لأنها لم تدخل حلبة السياسة إلا بالعناد الإسرائيلي وليس التدين اليهودي الرافض لتسييس القدس من أصلها، وهو ما يؤمن به هؤلاء، ومحل إيمان من المسلمين والنصارى قاطبة على وجه البسيطة، وهذه الخصوصية للقدس جلية وواضحة حتى لو أريد تعقيدها زوراً وبهتاناً. ولذا فإن القدس المقدسة لدى الأديان الثلاثة عصية على التسييس، وها قد مر عليها قرن منذ «وعد بلفور» ولم تحل القضية وعجز العالم أجمع عن إيجاد حل مناسب لجميع الأطراف حتى من بعض غير المؤمنين بها أصلاً، لأنهم أيضاً طرف رئيس في الصراع منذ البداية. وقد جربت السياسة فلم تفلح لتلك المدة الطويلة، فلم لا يجرب العالم «الديني» في مفهومه الشامل للحل العادل، فالاتفاقات المزمع سريانها في القريب العاجل علقت لعقود ونعتقد أن وقت تنفيذها سيطول بسبب رئيسي من حراك قدس الأقداس هناك، فمن يملك إزالة هذا الوصف عنها غير من شرّعها. القدس في الحقيقة ليست قضية العرب والمسلمين وحدهما، بل هي في الواقع قضية ثلثي سكان الأرض، بالنسبة للمسلمين الذين بلغ عددهم ملياراً وسبعمائة مليون وفق الإحصاء الأميركي، والنصارى قرابة مليارين، أما اليهود الذين يزعمون ملكية أبدية لهذا المكان المشترك فهم لا يزيدون عن 20 مليون نسمة في العالم أجمع، فهم إحصائياً دون مطالب دون الآخرين بكثير. أما الثلث الآخر من سكان الأرض، فهم معترفون جميعاً بقدسية هذا المكان ويحترمون الأديان الثلاثة بلا مواربة، فلا نشاز في هذا غير اليهود وليس كلهم، بل فقط السياسيين منهم، لا بل الصهاينة على وجه التحديد؟ وقد ذهبت دعاواهم بعيدة عن العامل الديني ضد طبيعة الدين اليهودي إرضاء للساسة ضد المتدينين من ذات الشعب الذي عد نفسه مختاراً، فرد عليهم المولى جل في علاه (... فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ...)، «سورة المائدة: الآية 18». والغريب أن إسرائيل تتذرع بهيكل سليمان وقد بنى سليمان في حياته العديد منها فلم يجدوا من آثاره شيئاً، وقد حفروا تحت المسجد الأقصى مرات ومرات وأنفقوا في ذلك مليارات من الدولارات وحتى الساعة الهيكل في خبر كان! عندما يأتي المحتل الإسرائيلي ويغير كل شيء في فلسطين المسروقة، ثم يدعي حقاً في ذلك، فهو ادعاء واهٍ ولا يستقيم، ومنافٍ أيضاً لحقائق التاريخ التي تؤكد بقاء فلسطين كما هي زاهية بهية منذ الأزمنة الغابرة. لقد غيرت إسرائيل وجه فلسطين المشرق إلى وجه آخر ضارب في الإغراب، وحتى شجرة الزيتون لم تسلم من القلع لصالح شجرة «الغرقد». فاسألوا أهل الذكر في فلسطين عن حال هذه شجرة الزيتون المباركة التي قال عنها المولى سبحانه في كتابه الكريم (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ...)، «سورة النور: الآية 35». ولذا لا تطيق إسرائيل وجودها في «أرض الميعاد» لأنها على موعد آخر مع شجرة «الغرقد» كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود»، فهم بانتظار هذا الوعد وعداًِ من بعد بلفور.