منذ نحو عشرين سنة كنتُ قد توصلت إلى صياغة مفهوم «الانتشار الدولتي»، وذلك بُعيد تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا السابقين، وكنت حينها أحذِّر من بروز ظاهرة بدت لي يومها أكثر خطورة ربما حتى من انتشار الأسلحة النووية: فتفكك الدول، في الغالب لا يكون مدفوعاً بإرادة الاستقلال الوطني كما كان الحال في زمن نزع الاستعمار، وإنما دافعه نوع من الأثرة والأنانية الاقتصادية، والرغبة في الاستئثار بالموارد الطبيعية والثروات لمنطقة معينة، سعياً لعدم مشاركتها مع بقية مكونات الدولة الوطنية المتحدة السابقة، وليس سراً أن الجمهوريات السلافية في الاتحاد السوفييتي لم تكن تريد الاستمرار في الإنفاق على جمهوريات آسيا الوسطى التي كان الاتحاد يجمعها معها، وكذلك كانت سلوفينيا تمثل 10% فقط من سكان يوغوسلافيا في حين كانت تنتج 25% من الناتج الوطني الإجمالي للبلاد، ولذلك فقد كانت هي أول من قرر الانفصال. وتنامي مثل هذه النزعات الانفصالية والانعزالية من شأنه تفتيت العالم كله، وإثارة النزاعات والصراعات فيه بشكل عارم، وذلك لأنه إن وضعنا جانباً تجربة انفصال مكوني تشيكوسلوفاكيا السابقة، بشكل سلمي، فإنه يندر أن يقع هذا النوع من الطلاق الناعم بين مكونات الدول، فمعظم حالات التفكك تقع ضمن مخاضات من العنف والدم. ومن هنا فإنني لست مؤيداً بأي شكل للنزعات الانفصالية والتفكيكية أياً كانت دوافعها، ولكن أعتقد أيضاً أن ما جرى مؤخراً في كتالونيا يبدو مختلفاً تماماً عن كل ما سبق. وبطبيعة الحال فهذا الإقليم يمثل الجزء الأكثر غنى وثراء في إسبانيا، ولذا فإن الجانب الاقتصادي ليس غائباً، بكل تأكيد، ضمن دواعي ودعاوى الاستقلال الذاتي، وذلك لأن الحقوق الثقافية الخاصة بالكاتالانيين التي كانت مقموعة في عهد «فرانكو» صارت مثبتة ومعترفاً بها دون لبْس، ولكن ما الذي يجعل النزعة الانفصالية تنتعش الآن، وفي هذه الظروف الراهنة؟ ليست مسؤولية الحكومة الإسبانية غريبة هنا، ولا بعيدة عن أن يكون لها دور، فمنذ عدة سنوات و«ماريانو راخوي» يرفض التفاوض مع الكتالانيين، ويدفعهم بذلك لمزيد من الاستقطاب والتصلب في مواقفهم، ولا شك أنه يوجد أصلاً من يرغبون في الانفصال منذ البداية، ولكن هنالك أيضاً كثيرين آخرين يريدون فقط توسيع هوامش الحكم الذاتي المحلي، وإعادة توزيع الموارد بشكل مختلف، ويمكننا أن نقول هنا إن العناد الشديد من قِبل راخوي قد أدى في النهاية لزيادة عدد الكتالانيين الراغبين في الانفصال. لقد خسر «راخوي» «حرب الصور»، وإلا فهل يمكن أن نمنع بالقوة، القوة الهوجاء وليس قوة القانون، أناساً قرروا الذهاب للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع؟ وكيف يمكننا أن نتخيل أو نقبل، أن يقع في الاتحاد الأوروبي القائم على احترام قواعد الديمقراطية، مثل هذا التعامل بالقوة، وبهذه الطريقة، مع أناس يقولون إنهم يرغبون فقط في الإدلاء بأصواتهم؟ وحتى لو كان هذا الاستفتاء قد وُصِف من قبل مدريد بأنه غير شرعي، فقد كانت هناك أيضاً طرق أخرى كثيرة لمعارضة إجرائه، فهذا العنف بحق سكان مدنيين يريدون التعبير عن آرائهم، وقمع تظاهرة بالقوة.. أمر خطير للغاية. ولا شك أن الحكومات الأوروبية محرجة الآن جداً، فهي لا ترغب في انتقاد دولة عضو، تعول عليها كثيراً كلما كانت هنالك حاجة إلى ذلك، هذا فضلاً عن كون هذا الخيار والاستثمار في الصمت ضامن أيضاً لعدم تعرض هذه الدول نفسها للنقد في أية حالات أخرى قد تستدعي نقدها في المستقبل، ولكن هل يمكن استيعاب كون الاتحاد الأوروبي الذي درج على إلقاء الدروس على بقية العالم حول مسألة احترام حقوق الإنسان، والحكم الرشيد، يعجز عن التلفظ حتى بكلمة واحدة إزاء قمع بهذه الدرجة من العنف؟ وبغض النظر عما يمكن قوله عن هذا الاستفتاء، من حيث هو، فإن هذا الصمت محرج ومزعج حقاً. فليس من الطبيعي أن يكون من حق الناس أن ينتفضوا في وجه عنف وعسف الشرطة في أي مكان آخر من العالم، باستثناء أن يقع ذلك في بلد عضو في الاتحاد الأوروبي، ليصير الاحتجاج غير مسموح! ومثلما أدى ديفيد كاميرون بانغلاقه السياسي والنفسي إلى تسريع «البريكسيت»، يمكننا أن نقول أيضاً إن ماريانو راخوي قد حفز الرغبة الانفصالية في كتالونيا. وسيكون من الصعب للغاية التقاط طرف أي نقاش، أو تفاوض، أو حوار بين الكتالانيين والحكومة الإسبانية، طالما ظل على رأس هذه الحكومة ماريانو راخوي، ولكن هل سيكون الانفصال خياراً رابحاً أو مفيداً لكتالونيا نفسها؟ ليس هذا مؤكداً أبداً، فلن تعود كتالونيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، ولذا فإن التمسك بالبقاء ضمن إسبانيا في فيدرالية، حيث تستطيع الأجزاء المنضوية فيها الاحتفاظ باختلافات وخصوصيات، بما في ذلك على مستوى توزيع الثروات، كل ذلك يفرض أعلى وأرقى درجات المرونة والانفتاح. وتُقدم دولة الإمارات العربية المتحدة، في هذا السياق، نموذجاً رائعاً للنجاح.