أقل ما يمكن أن يقال هو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثار ضجة كبيرة من خلال خطابه الطويل الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع عشر من سبتمبر الجاري. فأمام جمعية يلقي فيها الزعماء عادة كلمات موزونة ومهذبة، بغض النظر عن الخلافات التي قد توجد بين الدول أو لا، صدم ترامب الرأيَ العام بخطاب مجلجل يبتعد كل البعد عن الأعراف والممارسات المعهودة. فما الذي قاله ترامب في هذا الخطاب؟ لقد تحدث عن «الدول المارقة» قاصداً بذلك كوريا الشمالية وإيران، وأشار إلى أنه قادر على تدمير الأولى كلياً، إنْ هي قامت بمهاجمة الولايات المتحدة. صحيح أنه أوضح أنه لن يدمّرها إلا في حال أقدمت هذه الأخيرة على مهاجمة الولايات المتحدة أو حلفائها، إلا أن ترامب لا يحيد كثيراً عن منطق الردع، القائم على منع أي هجمات عن طريق التهديد بردٍّ قوي وشديد. غير أن ما يثير الإزعاج يكمن في الطريقة التي يعبّر بها ترامب عن آرائه؛ ذلك أن الردعَ عمليةٌ دقيقةٌ لا مجال فيها للاستفزازات. والحال أن الحديث عن تدمير بلد من على منبر الأمم المتحدة هو بكل صراحة سابقة في تاريخ العلاقات الدولية. ثم إن ترامب يدّعي أنه لا يعرف أنه إذا كانت كوريا الشمالية ترغب في امتلاك سلاح نووي، فلأن زعماءها لا يريدون أن ينتهي بهم الأمر مثل معمر القذافي أو صدام حسين. وعلاوة على ذلك، يريد ترامب إبهار من يستمع إليه. غير أنه بوسع المرء الشك في أن يكون قد أبهر كيم جونغ أون؛ وبالمقابل، بوسع المرء خشية تصعيد جديد للتوتر، في الوقت الذي بدأ فيه أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس، إلى جانب الروس والصينيين، الحديث عن حل دبلوماسي للمشكلة الكورية. بيد أن الخطير هو الطريقة التي أعاد بها ترامب إحياء مصطلح «الدول المارقة»، الذي بات قديماً وطواه النسيان. فـ«الدول المارقة»، وفق ترامب وسابقيه، تشارك في انتشار الأسلحة النووية، ولا تحترم حقوق الإنسان؛ والحال أن ثمة حلفاء للولايات المتحدة يمتلكون أيضاً السلاح النووي ولا يقيمون وزناً لحقوق الإنسان. والحقيقة هي أن المقصود بـ«الدول المارقة» هي تلك الدول التي تزعج الولايات المتحدة وتعاندها. فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أعلنت الولايات المتحدة الحرب في العراق وأنشأت معتقلاً «استثنائياً» في جوانتانامو، وهو فعلٌ لا تأتي به إلا «الدول المارقة». خطاب ترامب يواجه مشكلتين اثنتين. ذلك أنه من غير الأكيد أن يعيد لأميركا عظمتها وأن يجعلها قوية، بل على العكس من ذلك، يمكننا القول إن خطابات ترامب وأعماله باتت تُضعفها. ذلك أنه في عالم القرن الحادي والعشرين، لا يمكن أن تكون ثمة حلول للمشاكل الكثيرة التي تواجه الإنسانية غير الحلول متعددة الجوانب. فسواء تعلّق الأمر بإنهاء الحرب الأهلية في سوريا أو الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري أو بمكافحة آفة الإرهاب، فإن التعاون والتنسيق الدوليين هما الوحيدان اللذان بوسعهما النجاح. والواقع أن الأحادية ليست سيئة أخلاقياً فحسب، بل إنها ضمانة الفشل في عالم معولم. والاعتقاد بأن من شأن القرارات والأعمال الأحادية حل المشاكل العالمية الكبيرة هو وهمٌ كبير. وهمٌ سبق أن كلّف جورج بوش غالياً في 2003، بل والعالم بأسره. إن استفزازات ترامب تتسبب الآن في تصعيد التوتر على نحو غير ضروري، والخشية تزداد كل يوم من إمكانية حدوث انزلاق يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، والحال أن حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا وفي العالم العربي في حاجة إلى شريك موثوق يمكن التنبؤ بتصرفاته. وفي الأثناء، يواصل ترامب التصرف كما لو كان مقدمَ برامج تلفزيونية وليس رئيس أول قوة عالمية. ويمكن القول، إن الخطاب الذي ألقاه في الأمم المتحدة كان موجَّهاً أكثر إلى ناخبيه الذين يعتقدون أن العالم الخارجي ينطوي على إكراهات غير ضرورية، وليس على فرص لهم. وفي الوقت الذي يحاول فيه الجميع عادة إيجاد حلول للمشاكل التي يواجهها العالم، جاء ترامب ليضيف عدداً كبيراً من المشاكل الجديدة. يقول ترامب: «أميركا أولاً»، ولكن ربما يجدر به أن يقول: «أميركا معزولة»!