أتاح اجتماع المجلس الأوروبي الأخير فرصة لإعادة إطلاق ملف الدفاع الأوروبي، وهو هاجس مطروح منذ زمن طويل دون أن يتحقق فيه شيء ملموس. فقد خرجت القارة الأوروبية من الحرب العالمية الثانية وهي مدمَّرة بشكل كامل. وواجه المنتصرون والمهزومون، على حد سواء، نقصاً حاداً في البنيات التحتية، ومشكلات اقتصادية خانقة. وأمام التهديد السوفييتي الداهم لم يكن بأيديهم سوى تسليم مفاتيح أمنهم للولايات المتحدة. وفي بداية الستينيات، تغير هذا الملف حيث كانت أوروبا قد قطعت شوطاً في إعادة البناء والإعمار، وساعد في ذلك جزئياً برنامج مارشال. ولذا كان عليها أن تستقل أيضاً من حيث التكفل ذاتياً باحتياجاتها الأمنية والدفاعية، وفي هذا المسعى كان مشروع الجنرال ديغول. لكن البلدان الأوروبية رفضت ذلك مؤْثرة مظلةَ الحماية الصلبة التي توفرها الولايات المتحدة على الحماية الفرنسية الأضعف. وخشي بعضها أيضاً أن يتمكن ديغول من فرض نفوذ فرنسي يكون بديلاً عن النفوذ الأميركي، دون أن تكون لديه الإمكانات المتوافرة للولايات المتحدة. كما واجه ميتران في عهده الحلفاء الأوروبيين الذين ظلوا يرون الضمانة الأمنية الأميركية خياراً أساسياً لا بديل عنه. لكن المنعطف الثالث، بعد مساعي ديغول وميتران، وقع مع نهاية الحرب الباردة، إذ كان يفترض في الحلف الأطلسي «الناتو» أن يختفي باختفاء التهديد السوفييتي. لكن الدول الأوروبية آثرت التمسك بما بدا لها ضمانة أمنية مؤكدة، في عالم صار أقل خطورة، لكنه لا يخلو من عدم اليقين. وفي الفترة الأخيرة أثير كثير من القلق بشأن مستقبل أوروبا بعد الخروج البريطاني «البريكسيت»، وانتخاب الرئيس دونالد ترامب. وكان هذا الأخير قد قلل في حملته الانتخابية من جدوى «الناتو»، مؤكداً أنه يفضل التقارب مع روسيا. صحيح أنه غيّر رأيه لاحقاً، حيث فرضت عليه الدولة العميقة الأميركية توجهاتها. لكن خلافاً لما يقوله ترامب، فالأميركيون منخرطون في أوروبا ضمن «الناتو»، ليس من أجل سواد عيون الأوروبيين، وإنما لأن هذا الانخراط يصب في مصالح أميركا نفسها. وإن عاد ترامب وجدد التزامه تجاه «الناتو»، فإن هناك حالة إرباك عامة. وهنا تنفتح نافذة فرص محتملة لأوروبا يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يمكن أن يستفيد منها. والحال أن «البريكسيت» بعيد عن أن يكون كارثة بالنسبة للبلدان الأوروبية، لأنه زاد تحفزها وتحركها، وخاصة تجاه المسائل الأمنية. وكانت ميركل، منزعجة من ترامب، حين قالت إن الوقت حان لكي يمسك الأوروبيون مصيرهم بأيديهم: ولم يسبق أبداً لمستشار ألماني، وخاصة من التيار اليميني، أن عبّر بمثل هذا الوضوح عن رغبة في أخذ مسافة من الولايات المتحدة! أما ماكرون، الذي يصنف نفسه ضمن الخط الديغولي الميتراني، فقد جاء هو أيضاً في وقت مُواتٍ تماماً. ومع ألمانيا يمكن لأوروبا أن تتطلع مجدداً لاستعادة خياراتها الذاتية. وهذا لا يعني بالضرورة إحداث قطيعة مع «الناتو»، وإنما يعني في المقام الأول تحقيق استقلال في المواقف والسياسات، وقدرة على التصرف دون ضوء أخضر أميركي. صحيح أن الثنائي الفرنسي الألماني لا يكفي وحده لبناء نظام دفاعي أوروبي كامل، لكنه يستطيع إطلاق مبادرة، واستقطاب البلدان الأخرى حولها. وعلى الأرجح ستكون إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا، وبلدان أخرى، مستعدة للانخراط في هذا المسعى أكثر من القادمين الجدد إلى الاتحاد الأوروبي. وعلى كل حال، من غير المناسب انتظار التحاق الدول السبع والعشرين من أجل إطلاق المشروع الدفاعي الأوروبي. إذ يلزم بدايةً تشكيل نواة صغيرة من الدول المتفقة على المشروع، وبعد ذلك يمكن للآخرين الالتحاق به. وفي هذه الحالة، يلزم إيجاد مبادرة سياسية قوية تستطيع دفع الثنائي الفرنسي الألماني في البداية، على أن يتم توسيع المشروع تالياً ليضم الشركاء الأوروبيين الآخرين الراغبين، وخلق حالة حراك لا تكون فقط رهاناً رابحاً في بناء استقلالية استراتيجية، بل تكون لها أيضاً فوائد ملموسة على مستوى الاقتصاد والصناعة. لقد قال الزعيم الفرنسي الشهير جورج كليمنصو إن «البرازيل هي بلد المستقبل، الذي سيبقى كذلك لزمن طويل»، معبراً عن شكوكه في إمكانية أن تصبح تلك الدولة قوة مؤثرة ذات يوم. لكن ها قد أصبحت البرازيل اليوم قوة مؤثرة بالفعل. وقياساً على هذا، يمكننا أن نأمل في أن مشروع الدفاع الأوروبي الذي قيل من قبل إنه مفهوم للمستقبل، يمكن أن يصبح هو أيضاً حقيقة واقعة في النهاية. ------------------- باسكال بونيفاس* * مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس