على رغم مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب من خارج المؤسسات الحزبية والنظامية التقليدية، وتقديم نفسه باعتباره منتقداً ومقرعاً للدولة العميقة بمؤسساتها الرسمية، وصولاً إلى انتقاده للجنرالات وأجهزة الاستخبارات ومؤسسة الحزب الديمقراطي وحتى الجمهوري الذي انضم إليه دون اقتناع، وعلى رغم ترشحه على أجندة ترفع شعارات مثل «أميركا أولاً» و«لنجعل أميركا عظيمة مجدداً»، معطياً الأولوية للشأن الداخلي... فإذا به يتحول تدريجياً، وبعد شهرين في البيت الأبيض، إلى رئيس واقعي، مبتعداً عن سذاجته في بعض لحظات الحملة، فلم يعد يهتم باتهام إدارة أوباما بالتنصت عليه في «برج ترامب» في نيويورك، ولم يعد يشغل وقته والأميركيين بأي حشود كانت أكبر، الحشود التي حضرت وشاركت في حفل تنصيبه هو أم حشود تنصيب أوباما في عام 2013؟ ولم يعد أيضاً ينتقد قيادات حزبه الجمهوري ويقرعهم علناً. ولم يعد يشكك في أرقام البطالة «الكاذبة» التي كانت تصدر شهرياً من وزارة العمل أثناء إدارة أوباما! وعلى رغم البداية المتعثرة والمتخبطة لإدارة ترامب بإصداره عشرات الأوامر التنفيذية، وبعضها مستفز ومثير للجدل، وخاصة منع دخول رعايا سبع دول مسلمة إلى الولايات المتحدة ثم خفضها إلى ست دول، ما أدى لتجميد المحاكم الفيدرالية لتلك الأوامر، ثم منع حمل الأجهزة الإلكترونية الكبيرة على متن طائرات من دول خليجية وعربية وتركيا، فإن ترامب بدأ نوعاً من الجدية والاعتدال وأخذ يتحول تدريجياً من عقلية رجل الأعمال إلى عقلية رجل براغماتي عقلاني، يحيط نفسه بشخصيات محترفة في مجال العمل السياسي والعلاقات الدولية والأمن القومي. فقد تخلص من مستشاره للأمن الوطني الجنرال المتقاعد مايكل فلين، الذي كان عقائدياً وبأفكار متطرفة أكثر من كونه استراتيجياً، وخاصة في موقفه من الإسلام! وعلاقته المشبوهة مع روسيا، وعلاقته السرية التي لم يفصح عنها مع تركيا! وكذبه على نائب الرئيس «بينس» عن اجتماعاته مع السفير الروسي في واشنطن أثناء حملة ترامب للرئاسة! وقد استبدله بالجنرال مكماستر، مستشار الأمن الوطني الجديد، وهو شخصية عقلانية معتدلة ويتمتع بمصداقية، كما أنه صاحب قراءة واقعية للشؤون الدولية، وقد شارك في حروب أميركا في الخليج والشرق الأوسط، ولديه أفكار معتدلة وواقعية عن الإسلام. كما همش ترامب أيضاً ستيفن بانون الشخصية الخطرة وكبير المخططين الاستراتيجيين والمستشارين. وفي مخالفة للبروتوكول عينه عضواً في مجلس الأمن الوطني، ثم عزله من المنصب! وهناك أيضاً الخلافات بين نسيبه وأمين عام البيت الأبيض جاريد كوشنر وستيفن بانون، التي تتفاعل باستمرار وتترك انطباعاً سلبياً عن فريق العمل المقرب من ترامب داخل البيت الأبيض. واللافت عموماً هو التحول التدريجي في قرارات ترامب نحو الواقعية. واتخاذه قرارات مهمة تعكس تنامي واقعيته وتعلمه كرئيس، وقبوله تغيير مواقفه في بعض القضايا التي كان يتبناها ويكررها في حملته الانتخابية، ليطور الآن مواقفه تجاهها كرئيس! وفي حملة ترامب الانتخابية كان يشيد بقوة شخصيه وحنكة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووصفه في مناسبات بالرئيس القوي، وبأنه أقوى من رئيسنا الضعيف أوباما! وعلى رغم اتهامات الديمقراطيين وأجهزة الاستخبارات الأميركية الصريح لروسيا بالتدخل في انتخابات الرئاسة ضد كلينتون لمصلحة ترامب، من خلال قرصنة أنظمة حاسوب اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، فإن ترامب انتقد بوتين مؤخراً بسبب دفاعه عن رئيس «شرير يقتل ويفتك بشعبه ويستخدم الغازات لقتل المدنيين في سوريا.. وهذا معيب ويشكل وصمة عار للإنسانية!» كما سمح لأركان إدارته بتوجيه انتقادات غير مسبوقة لروسيا وبوتين. وسمح أيضاً لوزير خارجيته في زيارته الأولى لموسكو بالتأكيد على أن حكم نظام الأسد يقترب من نهايته، في تباين واضح مع موقف روسيا! كما رفض ترامب كذلك رفع العقوبات الأميركية عن روسيا على خلفية ضمها لشبه جزيرة القرم. وفي انقلاب كلي آخر تراجع ترامب أيضاً عن تكرار وصفه السلبي خلال الحملة لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، ليعود فيؤكد أنه هو أكبر وأنجح تحالف عسكري عرفه التاريخ الحديث، هذا بدلاً من وصفه بأنه قد عفا ?عليه ?الزمن، وبأنه لم ?يعد ?له ?دور ?في ?عالم ?اليوم! وكل هذه المواقف من «الناتو» ?ذهب إلى عكسها ?تماماً بعد ?اجتماعه ?مع ?أمين ?عام ?الحلف ?في ?البيت ?الأبيض ?الأسبوع ?الماضي! حيث أشاد ?بالحلف ?وبدوره ?في ?محاربة ?الإرهاب!? ولكنه ?يطالب فقط ?بعض ?أعضائه بتسديد ?المستحقات ?المالية ?عليهم. ?كما أن بعض ?الأعضاء أيضاً ?لا ?يلتزمون ?بتخصيص ?2% من ?مجمل ?الناتج ?القومي ?لأغراض ?الدفاع ?والتسلح. وكذلك كان ترامب كمرشح دائم الانتقاد للصين، ويتهمها بالتلاعب بسعر عملتها لتستفيد في التبادل التجاري لمصلحتها وعلى حساب أميركا، حيث يميل الميزان التجاري لمصلحة الصين! وهددها أيضاً بحرب تجارية، واتهمها بأنها لا تلعب دوراً إيجابياً للجم تمرد كوريا الشمالية، وبأنها تهدد جيرانها في بحر الصين الجنوبي. ولكن بعد الرئاسة، إذا به، بعد اجتماعه بالرئيس الصيني، يشيد بدور الصين، ويصف الاجتماع بالناجح. واضح إذن أن ترامب يبدى مرونة وتفهماً وتحولاً تدريجياً من عقلية رجل أعمال ناجح إلى عقلية رئيس دولة، ولذا وصفه زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ماكونيل بأنه يتعلم مهنة الرئاسة، وبأنه يمارس دوره كرئيس... ولكن من الواضح أيضاً أن ترامب قد يكون رئيس حرب رابعاً، بعد الرؤساء بوش الأب وبوش الابن وأوباما، وخاصة في ضوء حربه على الإرهاب، وبعد قصف سوريا وتهديد كوريا الشمالية، وقصف تنظيم «داعش» في أفغانستان بـ«أم القنابل»، ومواجهة تهديد «القاعدة» في اليمن والصومال.. ولهذا مقال قادم!