عشب أخضر، وسياج أبيض، وشمس مشرقة. أطفال صغار يعودون إلى البيت من المدرسة مشياً على الأقدام. أمهم، التي ترتدي مئزراً، تلوّح بيدها مرحّبة بعودتهم. أبوهم يصل إلى البيت في المساء عائداً من عمله الذي يتقاضى عنه راتباً جيداً، وهو العمل نفسه الذي شغله طيلة حياته. يلقي التحية على جيرانه مبتسماً -وجميعهم رجالاً ونساءً يشبهونه ويتحدثون مثله- ثم يجلس لمشاهدة نشرة أخبار السادسة مساءً بينما تقوم زوجته بإعداد العشاء. الجميع ينام نوماً هنيئاً، وهم يدركون أن اليوم التالي لن يجلب لهم أي مفاجآت. الواقع أن كل الأميركيين يعرفون هذه الصورة في عقلهم الباطني. فقد رأينا هذه الصورة الذهبية في الأفلام، وسمعنا عنها في الخطابات والأغاني. ولكننا نعرف أيضاً ما تخفيه وراءها. إذ ليس ثمة أي أشخاص سود في هذه الصورة -فهُم لم يكونوا يعيشون في هذا النوع من الأحياء في الأربعينيات والخمسينيات- كما أن المهاجرين المكسيكيين الذين يقومون بقطف حبات طماطم من أجل عشاء العائلة غير ظاهرين أيضاً في الصورة. ونحن لا نرى الزوجة تتناول قرص الفاليوم المهدّئ في الحمام. ولا نرى دمار ما بعد الحرب في أوروبا وآسيا الذي جعل الصناعة الأميركية مهيمنة والقوة الأميركية مركزية. ولا نرى نصف العالم خاضعاً لهيمنة أنظمة شمولية. كما لا نرى التحولات التكنولوجية التي على وشك الحدوث وتغيير الصورة. ولكننا نعرف أيضاً أن هذه الصورة، صورة أميركا، أكثر بساطة -قبل الحقوق المدنية، وحركة الدفاع عن حقوق النساء، وصعود دول أخرى، والإنترنت، والعولمة، والتجارة الحرة- لا يمكنها أن تعود أبداً، لأسباب ليس أقلها أنها لم تكن أبداً موجودة في الواقع. ولكننا حتى إذا كنا نعرف هذا، فهذا لا يعني أن الصورة ليست لديها قوة. إننا نعيش في ثقافة تحتفي بالابتكار، والمبادرة الفردية، والمجازفة، والتنوع، والتغيير. ولكن الكثير من الأشخاص يحلمون بالاستقرار، والأمن، والتجانس، بل وحتى النقاء العرقي، إلى جانب عالم لا أحد فيه يتحدى الولايات المتحدة أبداً. والواقع أن الرغبة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء باتت جد قوية، وجد مقنعة، وجد مغرية بالنسبة إلى «الأميركيين الحقيقيين» الذين يدعمونها، و«الرجال المنسيين والنساء المنسيات» الذين ذكرهم خطاب التنصيب، لدرجة أن جلبت لنا رئاسة دونالد ترامب. صحيح أن استطلاعات رأي مختلفة أظهرت، خلال الأيام القليلة الماضية، أن ترامب هو الرئيس الأميركي الجديد الأقل شعبية خلال العقود الأخيرة. كما أنه حصل على ثلاثة ملايين صوت أقل من منافسته. ولكن لا تدعوا أحداً يخدعكم، لا تقللوا من إغراء وجاذبية صورته التي تحنّ إلى الماضي. فدعوته إلى أميركا «تبدأ في الفوز من جديد»، وتنديده بـ«الجريمة والعصابات والمخدرات» المتفشية، كانت جد جذابة لدرجة أنه فاز بالانتخابات رغم إدمانه على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل عناصر شخصيته وتاريخه الشخصي. والآن وقد أصبح محاطاً بمظاهر الرئاسة في البيت الأبيض، فيمكن القول إن جاذبيتها قد تزداد. ولا شك أن هذه الصورة لن تغري الجميع، وهي لا تروم القيام بذلك في الحقيقة. بل على العكس، فجاذبيتها بالنسبة إلى ما تسمَّى «أميركا الحقيقية»، وهي قبيلة توجد داخل الولايات المتحدة الأميركية، تتعمد إقصاء أي شخص أسود أو بنّي، وأي شخص لا يعيش في عائلة نووية، وأي شخص لا يتطلع أو لا يستطيع التطلع إلى امتلاك منزل بسياج أبيض. كما أنها جاذبية لا يمكن أن تنجح، ذلك أن «الوظائف» و«الحدود» التي وعد ترامب بـ«إعادتها» لم تعد موجودة، في عالم السفر الجوي والذكاء الصناعي والأتمتة. غير أن ترامب ليس أول شعبوي ينجح عبر اقتراح رؤية قومية مثالية مستحيلة. وأي شخص يقرأ التاريخ يدرك أن الناس يتجادل بعضهم مع بعض، ويتنافس بعضهم مع بعض، بل ويقتل بعضهم مع بعض باسم عوالم طوباوية قومية وقبلية، دينية وعلمانية، يمينية ويسارية، منذ قرون كثيرة. ثم إنها جاذبية غير فريدة من نوعها. ذلك أن «أميركا ترامب» لديها ما يناظرها في أوروبا المعاصرة، في الخطاب القومي المتعصب لسياسيين يسعون أيضا لجرّ فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا بعنف إلى الخلف، إلى زمن يفترض أنه أكثر بساطة وأمناً وبياضاً ونقاءً. واليوم وقد وصل إلى الرئاسة، فإن آخرين كثراً ممن لديهم رؤى راديكالية، بل دموية، للتغيير سيسعون للاصطفاف معه أيضاً. ومع ذلك، فإن آخرين سيرفضون قوميته الأميركية الطوباوية، وخطاب «أميركا أولاً»، ودعواته الشرسة للحمائية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»