لا يشعر كتَّاب أفارقة كثر بالحرج الذي أعتقد أنه قائم في مناطق أخرى مثل المنطقة العربية، بسبب ما كُتب عن الاحتمالات، وحتى عن الرغبة في نجاح هيلاري كلينتون في تولي رئاسة الولايات المتحدة.. وقد كان ذلك منطقياً بالنسبة لكتابات صحفية يومية عن معركة انتخابية تصرف فيها المليارات. أما أن يأتي ذلك من بعض المثقفين الذين يعرفون أننا أمام نظام رأسمالي عالمي كبير، لا يتغير مع الرؤساء الأميركيين، سواء كانوا عاقلين جداً أو مندفعين، بدوا طائشين أحياناً، ومع ذلك أسقطوا الاتحاد السوفييتي ودمروا العراق، فهذا هو الأمر المثير للتعليق. ولم يراعِ كثيرون أن هناك الكونجرس الجمهوري الذي يحكم منذ مدة طويلة سلوك الرئيس أوباما «الديمقراطي»، فما بالك وهو مع رفيقه الجمهوري ترامب! ولذا أتصور دائماً أن حديث «المتغيرات» التي هي في الواقع ثوابت النظام، هو صلب عمل هذه المؤسسات -الحاكمة والمالية- المراعية تماماً للمصالح الدائمة لا الإعلام، وأن رئيساً أو آخر إنما يدفع فقط بهذه الطريقة أو تلك في التعبير، بحكمة أو بفجاجة عن هذه المتغيرات.. ولنتذكر هنا بداية أوباما وحديثه عن القوة الناعمة، ثم جسدها فيما نراه من وحشية في المشارق والمغارب، بما قد يجعلنا نتوقع القوة الغاشمة مباشرة من قبل الرئيس الجديد. لاشك أن الأفارقة كانوا يعرفون مدى الضيق الناتج عن الهجرة في المجتمع الأميركي، وعن الأقليات، أفريقية كانت أو مسلمة، وعن تصدي الرأسمالية لأوباما نفسه في برنامجه الانتخابي، الذي يهتم الحزب الديمقراطي نسبياً بإظهار بعض اجتماعيته، كما يعرفون بالضيق مما سمي ببرنامج بيل كلينتون عن فتح المنافذ لحرية التجارة والتصدير الأفريقي لأميركا فيما سمي «النمو والفرص لأفريقيا»، بقدر ما يعرفون أيضاً عن الإلحاح الأميركي على إقامة أكثر من قاعدة لصالح القيادة العسكرية الخاصة بأفريقيا «أفريكوم».. فإذا جاء الرئيس ترامب ليعلن -بفجاحة- أنه سيتصدى لهجرة الأجانب (ويقصد القادمين من أفريقيا والمسلمين والمكسيك)، فهو يتحدث عن قضية قائمة، ولكن الواقع أن إثارة المخاوف بهذا الشكل إنما أتصورها مخاوف الحكومات الأفريقية من عودة المغتربين لبلاد تعاني الفقر، مع أن البعض رآها مكسباً للعمل والتنمية. هنا تبدو الأفكار الجديدة المحتملة عن دور الانعزالية الأميركية في بث الأضرار على التجارة العالمية، وأنها وإن اتخذت شكل «عودة الوطنية» في إطار العولمة، فهي تشير أساساً إلى مراجعات خاصة بتجارة الصين واستثماراتها مع أميركا والعكس، وأن على الصين وأفريقيا على السواء - وقد بدا ترامب عدوانياً تماماً تجاههما- أن تفكرا مع الآخرين في «الحدود الوطنية» للمصالح، وقد يبعث ذلك بأفكار إيجابية حول الاعتماد على الذات إزاء التطورات في «السياسات الكبرى» وليس في التصريحات الصحفية. وكان أوباما قد بدأ بإرسال الإشارات نحو الانسحاب مثلاً من الشرق الأوسط واتجاهه لمواجهة الصين في آسيا، وارتباكه إزاء الروس تنسيقاً أو صراعاً، وكل تلك الخطوات تأتي الآن في وضوح تصريحات ترامب طول الوقت.. وأظن أن الموقف الأميركي السابق من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» بدا تأديباً لأوروبا، ونوعاً من ضغط «الوطنية البيضاء» التي تم التعبير عنها في بريطانيا مبكراً وعند ترامب. إن شعوب أفريقيا والعالم العربي، ممن عانوا كثيراً من السياسات الأميركية على مدى أكثر من نصف قرن، تعرف أنه لم تتطور أحوال الشعوب العربية أو الأفريقية على رغم تعدد الرئاسات الأميركية والتظاهر بالتنوع، لأن المصالح الكبرى هي التي تصوغ السياسات الكبرى، وقد يكون نجاح ترامب بهذه الطريقة.. ولذلك تحدث كثير من الأفارقة عن ضرورة مراجعة الذات على رغم مسارعة بعض القيادات للترحيب بترامب في شرقي وغربي بل وشمال القارة. ولكن الأزمة بدت كبيرة في بلاد مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا التي ترسل بضائع لأميركا بأكثر من أربعة مليارات دولار، وغيرهما كتنزانيا وبوروندي... الخ. ورأى كثيرون أن ثمة اتجاهاً عدوانياً، وبسذاجة لدى القادم الجديد للبيت الأبيض، لابد من تجنبه وتأكيد الاتجاه نحو الداخل أو نحو الذات، وهذه نصيحة مفيدة للرؤساء جميعاً، وخاصة أن لدينا في الفترة المقبلة اجتماعات للقمم العربية والأفريقية في إطار خطة الشراكة، وكذا قمة أفريقية دورية ينتخب فيها أمين عام تنفيذي جديد للاتحاد الأفريقي تشق معركة اختياره صفوف القارة.. ونأمل أن يتجنبها الرؤساء، مراعاة للظروف الدولية... بعد انتخاب ترامب. وقد ذكرت إحدى الصحف الأفريقية تلقي ترامب في ربع الساعة الأول من انتخابه 500 رسالة «تويتر» من بلدان أفريقية مختلفة، استنكاراً لفوزه.. فإلى مراجعة النفس!