انتهت أكثر الانتخابات إثارةً للخوف، وأجدني أفكر في فتاة التقيتُها قبل عدة سنوات في سيبيريا، فتاة كانت في غاية التأثر بعد أن أجرت امتحاناً يتم على أساس نتائجه تحديد الفائزين برحلة دراسية ممولة من الحكومة الأميركية إلى الولايات المتحدة. كانت لا تعلم بعد ما إن كانت قد فازت أو فشلت، ولكن تلك كانت المرة الأولى في حياتها التي تشعر فيها أنها تتنافس على شيء اعتماداً على مؤهلاتها وجدارتها فقط، وحيث لا فائدة ولا دور للرِّشى أو العلاقات مع الأشخاص من ذوي نفوذ. وهذا وحده جعلها ممتنّةً للولايات المتحدة ومعجبة بها أيما إعجاب. وبالنسبة إليّ، فإن تلك الفتاة كانت ترى أميركا الحقيقية. كما أجدني أفكر في موظفي وزارة الخارجية الأميركية الذين التقيتُهم خلال تلك المرحلة نفسها من حياتي، حين كنتُ مراسلاً لصحيفة «واشنطن بوست». أولئك الدبلوماسيون، الشباب وغير الشباب، لم يكونوا يعيشون حياة مترفة، ولم يكونوا يحصلون على اعتراف حقيقي، رغم الجهد الذين كانوا يبذلونه. فقد تعلموا اللغات المحلية وأصبحوا يجيدونها في دوشانبي (طاجكستان) أو سيؤول (كوريا الجنوبية) أو يريفان (أرمينيا)، وكانوا يُمضون أياماً ولياليَ طويلة يلتقون خلالها السياسيين والنشطاء والفنانين المحليين، ويكتبون برقيات قد تُقرأ وقد لا تُقرأ في واشنطن، باذلين قصارى جهدهم لفهم ثقافات أخرى وشرح ثقافتنا. كان بإمكان الكثير منهم تقاضي راتب أفضل وعيش حياة أكثر راحة في وظائف أخرى، ولكنهم كانوا يريدون خدمة بلدهم. وأنا واثق من أن جودة عملهم كانت متفاوتة، ولكن معظمهم كانوا رائعين ومتفانين في عملهم. وهم دون شك لم يكونوا «أغبياء»، ولم يكونوا «كارثة». لقد كانوا أيضاً يمثلون أميركا الحقيقية. وأفكر أيضاً في العسكريين والعسكريات الذين التقيتهم خلال مرحلة أخرى من مشواري المهني، عندما كنتُ أكتب حول مواضيع الأمن الوطني. فقد كنت أمشي عبر أروقة البنتاجون كل صباح بحثاً عن أخبار، وأتيحت لي خلال تلك التجربة فرصة التعرف على كثير من ضباط الجيش والقوات الجوية والبحرية، الذين كان العديد منهم مستائين وممتعضين من وظائفهم المكتبية، حيث كانوا يريدون العودة إلى الحركة والعمل الميداني في البحر أو الجو. ولكنهم كانوا يؤدون عملهم في واشنطن بجدٍّ وتفانٍ. وكانوا يحرصون على الاستيقاظ في الصباح الباكر من أجل الجري والقيام بحركات رياضية حتى يحافظوا على لياقتهم البدنية، ويعملون حتى ساعة متأخرة تحت إمرة ضباط آخرين أعلى مرتبة. ربما كان أداؤهم متفاوتاً، ولكن أغلبيتهم الساحقة أشخاص وطنيون يقدّمون الوطن على أنفسهم ويتصفون بقدر كبير من نكران الذات، أشخاص واثقون في أنفسهم دون غرور، ومتعلمون تعليماً جيداً في تخصصاتهم. إنهم ليسوا «حطاماً»، وليسوا «فاشلين». إنهم أميركا الحقيقية. كما أجدني أفكر، وسط كل القبح المحيط بنا، في «حارسة العبور» في مدرستي الابتدائية المحلية، التي لا تتغيب يوماً، وتحرص كل الحرص على إلقاء التحية على الأطفال وممازحتهم أثناء عبورهم الشاعر بفرح وسرور لا تخطئهما العين. وبالنسبة إليّ، فإنها هي أميركا الحقيقية. وأفكر أيضاً في الرجل الذي يعيش في طرف الشارع من بيتي، والذي يحرص منذ أعوام على القيام بمهمة لا جزاء فيها ولا مكافأة: جمع الاستحقاقات المالية للسكان وتحمل مسؤولية الإشراف على مالية جمعية الحي من أجل صيانة مرافقه أو زرع بضع شجرات. وبالنسبة إليّ، هذه هي أميركا. كما أفكر في المتطوعين الذين ساعدوني على التصويت قبل 10 أيام في مكتب التصويت المبكر، متطوعون من أعمار مختلفة، وألوان مختلفة، ولكنات مختلفة، وجميعهم مؤدبون ومحترفون وملتزمون بمساعدتنا على ممارسة حقنا الدستوري. وأفكر في سائق «أوبر» الذي جاء ليوصلني إلى وجهتي في ساعة متأخرة من الليل الأسبوع الماضي، مهاجر من باكستان يعملا نهاراً في متجر «جايانت» المحلي وليلاً كسائق سيارة في خدمة «أوبر»، وجمعتني به دردشة خلال الرحلة أطلعني خلالها على سبب اضطراره إلى العمل ليلاً. وبالنسبة إليّ، تلك هي أميركا الحقيقية أيضاً. بالنسبة إليّ، أميركا، في جوهرها، ليست أنانية أو متعصبة أو ضيقة الأفق أو مفعمة بالكراهية. أحد المرشحين للرئاسة قد تجتمع فيه كل هذه الصفات، وقد يوحي بأننا جميعاً مثله. ولكنني لا أعتقد أن معظم الأميركيين -بما في ذلك معظم الأميركيين الذين سيصوتون له- يشتركون معه في هذه الصفات. والواقع أنني لا أعتقد أننا سننتخب مثل هذا الرجل، أما في حال انتخبناه، فأعتقد أن أميركا الحقيقية ستكون قوية بما يكفي لتصمد حتى انتهاء رئاسته وتبقى البلد الذي تكنّ له الفتاة السيبيرية الإعجاب والاحترام والتقدير. فريد حياة محلل سياسي أميركي يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»