خلال تسع سنوات من الانقسام الفلسطيني الذي قادته ورسخته حركتا «فتح» و«حماس» في الضفة الغربية وقطاع غزة، تسابقت الحركتان في تقديم خدمتين لإسرائيل: الأولى تقويض أي كيانية فلسطينية موحدة وتعزيز الانقسام السياسي والجغرافي والديموغرافي ومأسسته، والثانية حماية أمن إسرائيل. إسرائيل لم تفعل الكثير من أجل الظفر بهاتين الخدمتين، كل ما قامت وتقوم به هو رفع عصاها الغليظة فوق رأس سلطة رام الله وسلطة غزة وتبقي رسالة التهديد واضحة: إما إبداء حسن السلوك عن طريق حفظ أمن إسرائيل من طرفكم، وإما أن تقع العصا على رؤوسكم (عبر التضييق المالي والإداري ضد الضفة الغربية، أو بالضربات العسكرية ضد القطاع). الاستجابة من الطرفين، الفتحاوي والحمساوي، مُدهشة ولسان حالها يقول مُقابل الإبقاء على سلطتين هشتين: إننا على استعداد للقيام بكل شيء. بعض الخلاصات جاءت مؤخراً على لسان نبيل شعث، ليقول بأن السلطة تنفق على أمن إسرائيل أكثر مما تنفق على تعليم الفلسطينيين، وفي كل المجالات ذات العلاقة بالشعب الفلسطيني، هناك فشل متراكم من قبل «السلطة الوطنية»، والنجاح الوحيد الذي لا يختلف على تقييمه اثنان يحدث ويتواصل في مجال التنسيق الأمني مع إسرائيل! وفي جانب «حماس» لا تخرج بعض الخلاصات في غزة عن ذات الدائرة، أي الحفاظ على أمن إسرائيل، مقابل بقاء «حماس» في السلطة، لكن خطاب «حماس» أكثر تعقيداً لأنه يدفع بلغة المقاومة إلى الأمام فتصبح المحافظة على الانقسام، وعلى أمن إسرائيل، من مكونات الأمن القومي الفلسطيني المقاوم! خلال السنوات الماضية الماضية، وتحت شعار المقاومة، أُجهضت المقاومة عملياً وأُخرج الشعب من ساحتها، وأُحيلت المُناقصة إلى «كتائب القسام». وخلال السنوات التسع من سيطرة «حماس» على القطاع تمت رعاية أمن إسرائيل على أكمل وجه. رغم الحروب الثلاثة ورغم آلاف «الصواريخ» التي بالكاد جرحت أحداً في إسرائيل، لم يتعد كل مجموع أيام وأسابيع المقاومة 11 أسبوعاً. أي ما لا يزيد عن 3? من الفترة كلها. مقابل ذلك تنعم إسرائيل بأمن وأمان على طول الحدود مع القطاع. وبالمقابل، فماذا استفادت فلسطين والفلسطينيون من هذه المعادلة المُختلة؟ عملياً، لا شيء سوى تعزيز الانقسام، وتأمين رأسمال سياسي مقاومي ظاهر لـ«حماس» كي تواصل سيطرتها على قطاع غزة. الخلاصة المشتركة هي أن سلطة الضفة وسلطة غزة فشلتا في تقديم أي مُنجز للشعب الفلسطيني، سواء عن طريق المفاوضات هنا، أو المقاومة هناك، بيد أن الاثنتين نجحتا في إنجاز ثلاث مهمات رئيسة: إعفاء الاحتلال من مسؤولياته الاحتلالية، المحافظة على الانقسام وتكريسه، والمحافظة على أمن إسرائيل. ولنتوقف هنا عند المهمة الثانية، أي تكريس الانقسام و«نحتفل» بعيد ميلاده التاسع هذه الأيام. في ذلك الصيف البائس والدموي سنة 2007 كتبت مقالة أتخوف فيها من تأبد الانقسام، لأنه أولاً وأخيراً سيحظى برعاية إسرائيل وبالمناخات التي تمد في عمره، وبأمل دق نواقيس الخطر المبكر ضمنت المقالة تنبؤاً يقول بأن السماح للانقسام بالتجذر سوف يُفضي إلى تخليق كيان مشوه في غزة على غرار «قبرص التركية»، لا يحظى بالسيادة ولا بالاعتراف الدولي، لكنه مخول من قبل دولة جارة للقيام بوظائف خدمية للسكان. سيناريو «قبرص التركية» هو الأكثر خدمة لإسرائيل، لأنه يحقق لها كل الأهداف التي تريدها دفعة واحدة وأكثر: فهو يخلصها من عبء الاحتلال والقيام بمسؤوليتها الاحتلالية، ويخفف من صورتها كمحتل عسكري كولونيالي بشع أمام العالم، ويحيل مهمة الحفاظ على أمنها إلى «قيادة» الشعب الواقع تحت الاحتلال ومن دون أية أكلاف حقيقية، ويقسم الشعب ذاته إلى نصفين بما يحطم وحدته العضوية والوطنية واحتمالات بروز أي كيانية وشرعية موحدة تهدد الاحتلال سياسياً أو مقاومياً، وفي نفس الوقت فإن «قبرص الغزاوية» لن تتمتع بأي شكل سيادي ولن تحلم بأن تكون لا دولة ولا حتى دويلة، وإنما ستبقى مجرد «حكم ذاتي» خدماتي يتقاتل عليه الفلسطينيون بمنظماتهم وفصائلهم إلى أبد الآبدين. خلال السنوات التسع الماضية تكرس سيناريو «قبرص الغزاوية»، وأعدت الكتابة حول هذا السيناريو عدة مرات، متأملاً أن تُسمع الدقات على جدران الخزان، وهذه الأيام و«احتفاءً» بالذكرى السيئة نعاود الكتابة حول الموضوع، وسأقوم باقتباس بعض ما تضمنته مقالات السنوات السابقة إزاء سيناريو قبرص التركية الذي بدا خطره كبيراً منذ الأشهر الأولى للانقسام، ثم ها هو يتحول إلى حقيقة مؤلمة وبشعة على أرض الواقع الفلسطيني.