على رغم ارتفاع نسبة التطرف عربياً وإسلامياً، لم نجد دراسة علمية تحلل العلاقة بين تفاقم الفكر المتطرف والتخصص العلمي والنظام التعليمي، وهذا يفسر حالة العجز العامة التي تهيمن على المجتمعات العربية. ففي دراسة وافية أجرتها مجموعة من الباحثين، شملت 497 من المتطرفين، تم اختيارهم استناداً إلى وثائق وقواعد بيانات، سواء من المحاكم أو المواقع الإلكترونية، وكان من أبرز النتائج المذهلة أن 28% حصلوا على تعليم أقل من المرحلة الثانوية العامة، في حين أن 76% منهم أنهوا المرحلة الثانوية. والغريب أن الدراسة وجدت أن 93 من بين مجموع 207 من عينة البحث متخصصون في الهندسة، و21 في الطب، و12 في الاقتصاد، في حين أن 8 متطرفين فقط تخصصوا في الرياضيات والعلوم، والباقون في الدراسات الإسلامية. مؤسسة «كارنيجي» الأميركية وجدت أن أكثر من يحمل توجهات دينية هم من المهندسين، والتفسير العلمي المحتمل لذلك أن دارس الهندسة تركب عقله وفق ميكانيكية معينة قد تدفعه نحو أحادية التفكير وتبني نماذج متطرفة! فبعض هؤلاء قد يتقبلون الأفكار والنصوص الدينية دون أي محاولة نقدية، وتجد مدارس التطرف سهولة في اقتحام عقول الشباب من الخلفيات العلمية. وتقدم الدراسات بعض الأمثلة الأخرى ومنها أن منفذي ومدبري أحداث سبتمبر الأميركية، 25 منهم متخصصون في الهندسة، وشكري مصطفى مؤسس جماعة «التكفير والهجرة» في عام 1969 كان يعمل مهندساً زراعياً، وصالح سرية مؤسس تنظيم «الفنية العسكرية» كذلك كان مهندساً. كما وجدت الدراسة أن بعض قيادات الجماعات الباكستانية من تخصصات الهندسة. ووفق الدراسة أن الاستثناء تجلى في حالات دول عربية وذلك لزيادة المدارس الدينية وسهولة دراستها. ويبدو أن الإسهامات البحثية كشفت عن بعض عوامل الارتباط بين التخصص والميل نحو التطرف، واستطاعت أن تصل إلى مجموعة من الحقائق في فهمها للظواهر المتطرفة، وكان منها أن التنظيمات المتطرفة تدير أعمالها أحياناً وفق رؤية علمية بالمفهوم السلبي طبعاً! وأنها تستقطب منتسبيها من خلال توظيف وسائل تقنية عالية تستخدم الأدوات النفسية أو السيكولوجية في كيفية اختراق العقول، وزرع دوافع عدوانية نحو الهدف المطلوب! وتشير بعض النتائج العلمية إلى أن دراسة الهندسة توفر فرص عمل أكثر من التخصصات الأخرى، كما أن كثيراً من الدول، ومنها العربية، تتجه في إرسال مبتعثيها لدراسة الهندسة، وهذا ما قد يفسر زيادة عدد المتطرفين من التخصصات الهندسية. كما أن تخصص الهندسة يحتل مكانة اجتماعية نخبوية وفق بيئات مجتمعات الشرق العربي، التي اتسمت بالحدّية وضيق مساحة الانفتاح، أو ما سمي بالاحتقان الاجتماعي، باعتبار أن مثل هذه العوامل ساهمت في إيجاد أرضية قد تساعد على التطرف. وتؤكد الدراسات المختلفة أن الرعيل الأول من المتطرفين توجهوا نحو الداخل، ومن ثم تحولوا إلى متطرفين دوليين كما وصفتهم نتائج هذه الدراسات. إن مثل هذه الدراسات لا تجد الاهتمام الكافي في مجتمعاتنا، ولم تقم مؤسسات وطنية عربية كثيرة بدراسة أنماط التطرف وأسبابه، وهذا ما قاد إلى اتساع دائرة الانخداع بالفكر المتطرف والعدواني، فالاهتمام توجه نحو الأدوات الأمنية التقليدية دون توازن في استخدام الأدوات العلمية في الحد من الظاهرة. وربما يكون أفضل تشبيه للتطرف هو أننا يجب أن ننظر إليه باعتباره مرضاً اجتماعياً مثل الأمراض المعدية التي تحتاج إلى حقن تزيد من مناعة الفرد بما يمنعه من تلقي وباء جرثومة التطرف. ------------ * مستشار «اليونسكو» للشؤون العربية