الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية والأمنية التي انتهجتها الولايات المتحدة لأكثر من سبعة عقود، تحت الإدارات «الديمقراطية» و«الجمهورية» على حد سواء، باتت اليوم محل تشكيك من قبل قطاعات واسعة من الجمهور الأميركي وموضع انتقادات شديدة من قبل المرشحين البارزين من كلا الحزبين، إذ يبدو أن أميركيين كثيرين لم يعودوا يقدّرون النظام الدولي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة غداة الحرب العالمية الثانية، وعملت على رعايته ودعمه خلال الحرب الباردة وبعدها؛ أو لعلهم باتوا يتعاملون معه باعتباره من المسلّمات غافلين عن الدور الأساسي الذي تلعبه الولايات المتحدة في دعم البيئة الدولية التي يستفيدون منها كثيراً، ذلك أن الرخاء غير المسبوق الذي أتاحه فتح وتحرير الأسواق وازدهار التجارة الدولية، وانتشار الديمقراطية، وتجنب نزاعات كبيرة بين القوى الكبرى. كل هذه الإنجازات اللافتة اعتمدت على انخراط أميركا المستمر حول العالم، والحال أن سياسيين من كلا الحزبين ما فتئوا يلوّحون للجمهور برؤية أميركا محرَّرة من أعباء الزعامة. بيد أن ما لا يقوله هؤلاء السياسيون، ربما لأنهم هم أنفسهم لا يدركون ذلك، إن ثمن إنهاء انخراطنا سيكون باهظاً للغاية، لأن النظام الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة، بات اليوم يواجه تحديات أكبر وأعظم من أي وقت منذ ذروة الحرب الباردة. ذلك أن القوى السلطوية الصاعدة في آسيا وأوروبا تهدد بإضعاف أمن البنيات والهياكل التي حافظت على الأمن منذ الحرب العالمية الثانية؛ وروسيا غزت أوكرانيا واستولت على جزء من أراضيها؛ وفي شرق آسيا، تحاول الصين، التي تسعى لتأكيد قوتها ونفوذها، السيطرة على الخطوط البحرية التي يمر عبرها جزء كبير من التجارة العالمية. وفي الشرق الأوسط، تتّبع إيران سياسة الهيمنة عبر دعم «حزب الله» و«حماس» والنظام الدموي في سوريا. وفي الأثناء، بات «داعش» يبسط سيطرته على مناطق أكبر مما سيطر عليه أي تنظيم إرهابي في التاريخ، فارضاً بالعنف والتوحش رؤيته المتطرفة للإسلام ومستهدفاً أماكن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا. هذه التهديدات لن تزول من تلقاء نفسها. والولايات المتحدة لن تكون في مأمن إذا انهار النظام الدولي، مثلما حدث مرتين خلال القرن العشرين. ففي القرن الحادي والعشرين، لم تعد البحار توفر أمناً، ولا الجدران على الحدود، أو عزل الولايات المتحدة عن الاقتصاد الدولي عبر إلغاء الاتفاقيات التجارية وإقامة الحواجز أمام التجارة. وبدلًا من اتباع نصائح الديمغاجويين والشعبويين غير المسؤولة، يجدر بنا أن نستعيد الإجماع الحزبي المفقود في السياسة الخارجية حول تجديد الزعامة الأميركية في العالم. فعلى الرغم من التنبؤات بـ«عالم ما بعد الزعامة الأميركية»، مازالت قدرات الولايات المتحدة مهمة ومعتبرة. فالاقتصاد الأميركي مازال هو الأكثر حيوية في العالم؛ وفكرة «نهوض الباقين» – القائلة بأن الولايات المتحدة تم تجاوزها من قبل اقتصادات البرازيل وروسيا والهند والصين – أثبتت أنها مجرد وهم؛ والدولار ما زال هو عملة الاحتياط في العالم؛ والناس عبر العالم ينشدون الاستثمارات والمهارات الأميركية في ريادة الأعمال لمساعدة اقتصاداتهم الضعيفة؛ ومؤسسات التعليم العالي الأميركية مازالت هي الأفضل في العالم وتجتذب طلبة من كل أنحاء العالم؛ والقيم السياسية التي تجسّدها الولايات المتحدة وترمز إليها مازالت تمثل قوى وعوامل مؤثرة من أجل التغيير. فحتى في وقت يتميز بتزايد السلطوية، هناك مطالب شعبية بقدر أكبر من الحريات في روسيا والصين وإيران وبلدان أخرى؛ والمطالبون بهذه الحريات ينظرون صوب الولايات المتحدة طلباً للدعم، المادي والمعنوي، كما أن وضعنا الاستراتيجي مازال قوياً؛ حيث لدى الولايات المتحدة أكثر من 50 حليفاً وشريكا عبر العالم، في حين لا تملك روسيا والصين سوى حفنة صغيرة من الحلفاء. وعليه، فالمهمة التي تنتظر الولايات المتحدة الآن تكمن في الاستفادة من نقاط القوة هذه وتوفير الزعامة التي يريدها الكثيرون عبر العالم، والتي يستطيع الجمهور الأميركي دعمها. وقد عملنا خلال العامين الماضيين، تحت رعاية «المنتدى الاقتصادي العالمي»، رفقة مجموعة متنوعة من الأميركيين، من كلا الحزبين، وممثلين من بلدان أخرى من أجل رسم الخطوط العريضة لزعامة أميركية متجددة. والواقع أن مقترحاتنا لم تأت بشيء سحري، فالاستراتيجية التي ينبغي تبنيها من أجل الحفاظ على النظام الدولي الحالي هي نفسها تقريباً الاستراتيجيات التي اتُّبعت أثناء إنشائه، غير أنه لا بد من تحديثها وتكييفها حتى تستجيب للتحديات الجديدة وتستفيد من الفرص الجديدة. وخلاصة القول إنه يجب دائماً تذكير الأميركيين بالأشياء التي قد يفقدونها. فالملايين عبر العالم استفادوا من نظام دولي فتح الأنظمة السياسية، وحافظ على السلام بشكل عام؛ غير أن لا شعب استفاد منه أكثر من الأميركيين، ولا دولة لديها دور أكبر من أميركا لتلعبه في الحفاظ عليه من أجل الأجيال المقبلة. إيفو دالدر: زميل «مؤسسة بروكينجز» في واشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوزسيرفس»