قبل نحو عقد من الزمن، كان المحللون المتخصصون في قضايا الإرهاب لا يخفون قلقهم من إمكانية عودة الجهاديين الأوروبيين من الحرب في العراق وأفغانستان وإيجادهم ملاذاً آمناً بين الجاليات والأحياء المهمّشة والمستاءة عبر أوروبا، ولكن «نزيف» «القاعدة»، مثلما أُطلق عليه في دوائر مكافحة الإرهاب، لم يحدث أبداً في الواقع، حيث لم يتأتَّ للتنظيم اختراق الجاليات المنحدرة من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أوروبا، كما فشل في اجتذاب الكثير ممن يسميهم التنظيم «أصحاب السجلات النظيفة» – والمقصود بذلك حملة جوازات السفر الأجنبية القادرون على المرور عبر حواجز الأمن دون لفت الانتباه. وبالمقابل، استطاع تنظيم «داعش» في وقت قصير تحقيق ما كانت «القاعدة» تحلم به فقط، حيث انضم أوروبيون مسلمون من الجيلين الثاني والثالث زرافات ووحداناً للقتال في العراق وسوريا، ملبّين نداء الجهاد في سوريا ومستفيدين مما تتيحه وسائل التكنولوجيا الحديثة من إمكانيات التواصل، فتوثقت روابطهم، وكان استعدادهم وتعطشهم للعنف كبيراً لا يروى. وبعد أن ساعدوا على بناء «دولة» خلافتهم في سوريا والعراق، وجّه هؤلاء المقاتلون الأوروبيون أسلحتهم نحو بلدانهم، ما أدى إلى نتائج مدمرة على غرار أعمال العنف الوحشية التي كانت بروكسيل وإسطنبول وباريس مسرحاً لها خلال الآونة الأخيرة. صحيفة «وول ستريت جورنال» ودورية «فورين أفيرز» نشرتا مؤخراً مقالات تشير إلى أن «داعش» يتّبع أسلوب «القاعدة» الإرهابي في أوروبا، ولكن هذه الادعاءات تجانب الصواب، ذلك أن «القاعدة» كانت تسعى إلى جلب الأجانب - «أصحاب السجلات النظيفة» - إلى ملاذات آمنة حيث يقوم التنظيم بتدريبهم لتنفيذ مخططات مفصلة لضرب أهداف بارزة ومحددة. وكانت الخلايا المدربة والعملاء يعودون إلى بلدانهم في انتظار إشارة من قيادة التنظيم، ولكن هؤلاء المجندين لم يكونوا يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية وكانوا يتلقون تعليمات بضرب أهداف بارزة، وبالمقابل، يبدو جهاد «داعش» الأوروبي مختلفاً جداً عن جهاد «القاعدة»، ويُعتبر أخطر بكثير بالنسبة لأوروبا. الفيلق العربي أكبر امتياز لداعش في أوروبا يكمن في شبكات المقاتلين الأجانب في سوريا التي أمضى التنظيم سنوات عديدة في إنشائها ورعايتها، وقد قيل وكتب الكثير عن «الفيلق العربي» التابع لزعيم «القاعدة» أسامة بن لادن الذي قاتل في أفغانستان خلال الثمانينيات، ولكن إعداد تلك القوة تبهت مقارنة مع عدد كوادر أعضاء «داعش» الأوروبيين اليوم الذي يرجح أن يكون أكبر بعشرة أضعاف، حيث سهّلت سرعة التواصل على وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة السفر إلى تركيا التدفق غير المسبوق. هذا في حين واجهت جهود «القاعدة» في الاستقطاب والتجنيد تحديات أكبر وأكثر، ذلك أن التنظيم لم يستفد من التقدم التكنولوجي المتاح لـ«داعش» اليوم، وجلب عدداً أقل بكثير من المجندين، الذين كانوا يقيَّمون تدريجياً ويدخلون بشكل بطيء إلى باكستان وأفغانستان واليمن والساحل الأفريقي – وجميعها مواقع كان التنقل فيها أصعب بكثير من سوريا، ومع أن «داعش» فقد أعداداً كبيرة جداً من كوادره الدوليين خلال هزائم على غرار تلك التي تكبّدها في كوباني (عين العرب)، إلا أن عدد من نجا من أعضاء داعش الأوروبيين يظل أكبر بكثير من المقاتلين الأجانب الذين تمكنت «القاعدة» من استقطابهم وتجنيدهم. البحث عن ذوي السجلات النظيفة وعلاوة على ذلك، يمكن القول إن قيمة المجندين الذين يجلبهم «داعش» تُعتبر، من بعض النواحي، أكبر من قيمة أولئك الذين كانت «القاعدة» تجتذبهم، ذلك أن هذه الأخيرة كانت تسعى وتتوق لتجنيد «أصحاب السجلات النظيفة» من أجل تنفيذ هجمات في الغرب، ولكن الغربيين الذين كانت تجتذبهم كانوا قلائل، وكانوا في كثير من الأحيان ممن يعانون مشاكل واضطرابات في حيواتهم، بل إن بعضهم كان سبباً في إحداث شقاق في صفوف التنظيم، فأصبح عبئاً عليه أكثر منه مكسباً له. وعلى سبيل المثال، فإن عمر حمّاني وأسامة البريطاني، مقاتل أجنبي أميركي مشهور ومقاتل أجنبي بريطاني مشهور في فرع «القاعدة» الصومالي «الشباب»، كانا يتحديان أميرهما وأثارا انقساماً بين المقاتلين الأجانب والمقاتلين المحليين. وقد أدى خلافهما العلني إلى زيادة الشقاق ضمن صفوف «الشباب» وانتهى بقتل هذين المجندين الغربيين، الذين كانا ذات يوم محل إكبار وتعظيم، أمام الملأ. ولأنه لم يكن لديهم عدد كافٍ من المجندين من أصحاب جوازات سفر غربية، فقد وقع اختيار «القاعدة» على الرجال العرب القادرين على السفر إلى الغرب بتأشيرات، فسعت خلايا العمليات الخارجية لاستقطاب مجندين يتحلون بالذكاء والانضباط، ولذلك، فإن العديد من عملاء «القاعدة» كانوا من حملة الشهادات الجامعية وينحدرون من عائلات وأوساط اجتماعية محترمة، وبدا أنهم يتمتعون بقدرات عالية، ومع أن العديد منهم خضع للتدريب في أفغانستان، إلا أن القليلين فقط ممن كانوا يرسلون إلى الغرب لتنفيذ هجمات كانت لديهم تجربة قتالية مهمة، فقد كانت هجماتهم تلك أول تجارب شخصية لهم في عالم العنف. لقد كانوا شباباً أغراراً ينشطون في أرض العدو، ولأنهم كانوا في معظمهم رجالاً من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد كانوا يلفتون الانتباه إليهم في كثير من الأحيان. في بعض الأحيان، كانوا يتمكنون من المرور بدون لفت الانتباه – ولعل هجمات الحادي عشر من سبتمبر خير مثال في هذا الصدد– ولكنهم في أحيان أخرى كثيرة كانوا يوقفون أثناء عبورهم الحدود، أو تنسيقهم مخططات ضد طائرات مدنية، أو محاولتهم تطوير أجهزة ناسفة لمهاجمة أنظمة النقل الجماعي. تجنيد أبناء الجاليات الأوروبية وبالمقابل، قلب «داعش» أسلوب «القاعدة» في التجنيد رأساً على عقب، ذلك أن مجنديها يأتون بشكل جماعي من أحياء الجاليات الأجنبية في أوروبا، وخلافاً لـ«القاعدة»، التي كانت تُخضع أعضاءها الجدد لعملية فحص «أمني» دقيقة قصد كشف الجواسيس المحتملين أو أصحاب السوابق الإجرامية، كان «داعش»، على الأقل في أوج قوته في 2015، يحتضن أي أجنبي يريد التطوع، مانحاً بذلك الشباب الغربي الساخط والناقم بيتاً وهدفاً واتجاهاً جديداً. وعلى سبيل المثال، فإن قرابة نصف من كانت لهم علاقة بهجمات باريس وبروكسيل كانت لديهم سوابق إجرامية قبل انضمامهم إلى «داعش»، حيث تورطوا في جرائم من قبيل سرقة السيارات والسطو على البنوك، وقد كانت «القاعدة» محقة بشأن حقيقة أن السوابق الإجرامية ستمثل «نقطة ضعف» عند إرسال عميل أو عميلين إلى الغرب في الوقت نفسه، ولكن أعداد مقاتلي «داعش» العائدين كانت أكبر من قدرة أنظمة الفحص الأمني الأوروبية على رصدهم. وبالطبع، فقد تمكنت تلك الأجهزة الأمنية من التعرف على بعضهم وتوقيفهم، ولكن الكثيرين منهم تمكنوا من العودة بدون مشاكل، وباستعمال جوازات سفرهم فقط لا غير. استغلال المجرمين السابقين ويمكن القول إن هجمات «داعش» في الغرب تستفيد، ولا تتضرر، من المجرمين السابقين، الأقل تديناً والأكثر جسارة، الذين اجتذبتهم لجملة من الأسباب، فأولاً، مقاتلو «داعش» الأوروبيون العائدون يختارون الاستقرار في نفس الأحياء وبين نفس الجاليات التي ينحدرون منها، ونتيجة لذلك، فإنهم لا يلفتون انتباه الدوائر الأمنية إليهم بشكل عام، وهو ترف لم يكن متاحاً لـ«القاعدة» أبداً. ثانياً، عملاء «داعش» يهاجمون البلدات والأهداف التي يعرفونها جيداً. وهكذا، فبدلاً من أن يضطروا للقيام بعمليات استطلاع لمعالم وطنية أو مؤسسات حكومية غير مألوفة، فإنهم يستهدفون منشآت رياضية محلية، وأنظمة النقل الجماعي، وأماكن عامة شعبية ربما سبق لهم ارتيادها واستعمالها. ثالثاً، عملاء «داعش» في الغرب كثيراً ما يكونون أقارب أو أصدقاء مدى الحياة، خضعوا للتجنيد معاً، وعملوا جنباً إلى جنب، وعادوا إلى بلدانهم الغربية سالمين كوحدة محاربة. وعلاقاتهم الممتدة والطويلة هذه تقوّي وتعزّز ثقتهم والتزامهم خلال هجمات على الغرب، خلافاً لـ«القاعدة» التي لا تحقق ذلك إلا بين كوادرها القديمة التي قاتلت معاً في أفغانستان. ورابعاً، السوابق الإجرامية السابقة لمجندي «داعش» الأجانب تُظهر استعداداً وميلاً للقيام بأنشطة غير قانونية وأعمال عنف شنيعة قبل توجههم للجهاد في سوريا والعراق. والأرجح أنهم أكثر ارتياحاً في أعمال القتل من مجندي «القاعدة»، ونتيجة لذلك، فإنهم أكثر ثقة وتصميماً على تنفيذ هجمات عندما يعودون. «نية القائد» ولا شك أن نجاحات «داعش» الأخيرة في أوروبا تعود إلى استفادته من مقاتليه الأوروبيين العديدين المدرَّبين تدريباً جيداً، ولكن أسلوبه العملياتي ساعده كثيراً في ذلك. وبالمقابل، فإن «القاعدة» كانت تعمل ببطء وتقوم بالإشراف على عملياتها الخارجية بما في ذلك أدق التفاصيل، وكانت تبقى على اتصال دائم بين عملائها والقيادة المركزية. وقد كانت مخططات التنظيم معقدة للغاية، وكانت تخضع لإشراف دقيق من قبل القياديين في أفغانستان وباكستان، وهو ما كان يبطئ وتيرة الهجمات على الصعيد العالمي. ولأن وحدات «داعش» المحاربة لديها خبرة وحنكة، فإنها تستطيع اتباع نموذج أشبه بمفهوم «نية القائد» المتداول في الجيش الأميركي، فمثلما يفسر ضابط القوات الخاصة المتقاعد في الجيش الأميركي تشاد ستورلي، فإن «نية القائد» تعني الكيفية التي يتصوّر بها القائد ساحة المعركة عند نهاية المهمة. إنها تُظهر شكل النجاح. فـ«نية القائد» تأخذ في عين الاعتبار الفوضى، وغياب المعلومات الكاملة، والتغيرات في وضع العدو، وعوامل أخرى ذات صلة قد تجعل مخططاً ما قديماً ومتجاوَزاً كلياً أو جزئياً عند تنفيذه. ودور «نية القائد»، بالتالي، هو تقوية أفراد الفريق وتوجيه مبادرتهم وارتجالهم عندما يقومون بتكييف مخططهم مع الظروف الجديدة لساحة المعركة. ويتمتع زعماء خلايا العمليات الخارجية التابعة لـ«داعش» باستقلالية كبيرة لوضع وتنفيذ مخطط على صعيد محلي، متّبعين في ذلك أسلوب هجمات مومباي التي نفذها تنظيم «عسكر طيبة»، الموجود مقره في باكستان، ضد الهند في 2009، ذلك أن مثل هذه الهجمات يمكن تخطيطها بشكل أسرع وأحسن من أي مخطط يعدّه قياديو «داعش» المركزيون المنشغلون بشؤون التسيير اليومي لـ«دولة الخلافة». بيد أن أسلوب «داعش» القائم على مفهوم «نية القائد»، وخلافاً لأسلوب الإشراف الكامل الذي يشمل أدق التفاصيل الذي تتبعه «القاعدة»، لا يفرز مؤشرات يمكن أن تسمح للحكومات الغربية برصد هجمات وشيكة، فمخططات «القاعدة» كان المؤشر عليها في كثير من الأحيان هو الزيادات المسجلة في «الاتصالات الإرهابية»، التي تشير إلى أن خلية ما قد تكون بصدد إعداد العدة لهجوم وشيك، وإذا كانت الاتصالات بين القيادة والعملاء التي سمحت لقيادة «القاعدة»المركزية بالحفاظ على سيطرة عملياتية قد شكلت عبئاً وعائقاً بالنسبة للتنظيم، فإن «نية القائد» تسمح للأعضاء بالتواصل مع القيادة بشكل أقل، وعلاوة على ذلك فإن «داعش» تمكن بسرعة من تطوير مستويات متقدمة من التشفير عبر عدد من تطبيقات التواصل الاجتماعي وتقنيات إلكترونية أخرى لم تكن متاحة خلال أزهى أيام «القاعدة». تهديد أوروبا وغني عن البيان أن القوة البشرية الكبيرة التي يمتلكها «داعش» وسيطرته العملياتية عبر القارة تطرحان تهديدات كبيرة لأوروبا في المستقبل القريب، كما أن استقلالية الإرهابيين ومرونتهم ستفوق العمل البطيء لأجهزة الاتحاد الأوروبي البيروقراطية الكثيرة، ولكن على المدى البعيد قد ينقلب أسلوب «داعش» في أوروبا على التنظيم، ذلك أن عنفهم المتوحش تسبب في مقتل الكثير من المدنيين الأبرياء، بمن فيهم مسلمون ونساء وأطفال. وبالقابل، يتّبع زعيم «القاعدة» الحالي أيمن الظواهري أسلوباً بطيئاً وحذراً في مهاجمة الغرب حتى يتجنب فقدان الدعم الشعبي الذي قد ينجم عن مثل هذه الإصابات، ذلك أن الظواهري تعلّم هذا الدرس خلال الأيام التي كان يتزعم فيها تنظيم «الجهاد الإسلامي» المصري، عندما ساهم قتلهم الواسع لمدنيين في طردهم ولفظهم من البلاد في الأخير. «داعش» والانكشاف الأوروبي إذا بلغت اعتداءات «داعش» مستويات جديدة في الغرب، فإن ذلك قد ينسف أي دعم شعبي ربما يحظون به لدى بعض الفئات، غير أن هذا لا يعني أن الغرب يمكنه أن يقف موقف المتفرج، بل عليه أن يسعى لكشف ومعرفة التنظيمات الإرهابية الأخرى، سواء الدولية أو الداخلية، التي تسعى لمحاكاة نجاحات «داعش» والبناء عليها، ذلك أن نقاط ضعف أوروبا انكشفت وتعرت، وإذا لم تقم داعش باستغلالها، فلا شك أن تنظيماً إرهابياً أو إجرامياً آخر سيفعل. هجمات باريس وبروكسيل (من وجهة نظر «داعش») تولد مزيداً من النجاحات في وقت يقوم فيه مهاجمون مقلدون بتعبئة أنفسهم في الغرب. صحيح أن معظمها يفشل أو لا يحقق الكثير، ولكنها تنجح أحياناً، على غرار هجوم سان بيرناردينو (كاليفورنيا)، فتعزّز صورة «داعش» وتقوّيها، سواء كان لها علاقة بالتنظيم أم لا. كلينت واتس *زميل رئيسي في معهد Foreign Policy للبحوث ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»