من الخطورة بمكان، بالنسبة لأي خبير في الشؤون الوطنية والدولية، أن يلمح إلى أن التطورات أو الأحداث قد وصلت إلى نقطة فاصلة، أو منعطف حاسم، في هذا العالم المضطرب، ومتغير الأوجه، الذي نعيش فيه. لذلك، حرصت، من جانبي، على توخي أقصى درجات الحذر، في عرض الحجج التي سأسوقها في هذا المقال. كما أود أن ألفت النظر أيضاً، إلى أن هذه الحجج مقدمة على خلفية معرفتي بأن محللين آخرين عديدين في المشهد السياسي، يشعرون جازمين بأن عام 2015 قد شهد تدهوراً في أحوال أوروبا، وعبر الشرق الأوسط، وفي السياسة الداخلية للولايات المتحدة، وقدرتها على توجيه شؤون العالم- وهي اتجاهات من المحتمل استمرارها خلال السنة الجديدة. من هنا، يمكنني القول إن هناك احتمالاً كبيراً للغاية أن يجد كاتب هذه السطور - الأكثر تفاؤلاً من الآخرين - نفسه نادماً في نهاية عام 2016 على ما قاله في بدايتها. وفيما يلي رؤية مختصرة مبنية على وضع عدة نقاط بجوار بعضها بعضاً. ولكن عند توصيل هذه النقاط، ينتهي بها الحال لتكوين خط متصل، أو إلى توجه يؤشر على أن الضغوط الواقعة على أميركا المشغولة لقمة رأسها، والمحاطة بالتحديات، قد تخف. وفي حقيقة الأمر، إنني أشعر بأن هذا المقال لم يكن ممكناً لي كتابته منذ ستة، أو ثمانية شهور؛ ففي الداخل الأميركي، كان الاقتصاد يبدو عليلاً للغاية، ولا يحقق سوى نمو متواضع، وعاجز عن توفير وظائف ذات رواتب جيدة، في حين كانت الحكومة عاجزة بسبب العقبات التي يضعها في طريقها الكونجرس، عن استخدام الإنفاق الفيدرالي في إطلاق المشاريع، وكان الرئيس يعاني من هجمات يومية من خصومه السياسيين العديدين في اليمين الأميركي. وفي الخارج، كانت الأمور تبدو أكثر سوءاً بمراحل؛ فروسيا كانت تندفع خارج حدودها، من شرق أوكرانيا وحتى سوريا، كما أن الصين التي تعزز نفوذها السياسي والدبلوماسي، بفضل نموها الاقتصادي المثير للإعجاب راحت تؤكد وجودها على «جزر سبراتلي»، وتوسع من موقعها في بحر الصين الجنوبي. من سيئ إلى أسوأ أما عبر منطقة الشرق الأوسط، فبدت الأمور وكأنها تمضي من سيئ لأسوأ، وخصوصاً بعد أن انتهت الجهود الأميركية الباهظة التكاليف لتحسين أفغانستان والعراق، إلى فشل ذريع، وتقدم مقاتلو «داعش» فجأة في العديد من المناطق، وفي أوروبا كانت القارة تعاني من تداعيات الأزمة المالية اليونانية، وأزمة أوكرانيا الإستراتيجية، وقصتها الاقتصادية المقلقة، وأزمة الهجرة المستحكمة، والفشل المؤسف للقيادة باستثناء واحد فقط، وهو المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، وهو ما ساهم في مجمله في خلق مشهد عالمي قاتم في حقيقة الأمر. ولكن مع مرور الشهور، حدث الكثير من الأشياء، وإذا ما شئنا أن نستشهد ببعض الأخبار التي راحت تتوالى كالسيل يوماً بعد يوم حاملة معها تفاصيل متاعب جديدة، فسيمكننا أن نرى أن التطورات قد تمخضت عن نتائج تصب في مصلحة أميركا في الأساس، وفي مصلحة الرئيس أوباما أيضاً. لكي نفهم معنى ذلك، دعونا ننظر إلى المشهد الداخلي في بداية العام الجديد الذي ولجناه تواً، ما سنراه أمامنا الآن هو أن أوباما، بعد كل شيء، قد بات في السنة النهائية من فترة ولايته، وأصبح بمقدوره أن يشعر بأنه قد غدا أقل اعتماداً على الكونجرس المعادي، وأن يتأمل إنجازاته، مثل مشروع «أوباما كير» للرعاية الصحية، وأن يصدر أوامر تنفيذية لمعالجة باقي السياسات، وبمقدوره كذلك الدفع بقوة بشأن برنامج الرقابة على بيع واستخدام الأسلحة الشخصية، لأنه لم يعد يخشى لوبي السلاح. آخر عام لأوباما وهو يستطيع، بل وينبغي، أن يشعر بالاطمئنان بدرجة معقولة الآن، بخصوص حالة الاقتصاد الأميركي. صحيح أن نمو هذا الاقتصاد مازال بطيئاً، وأن عدداً قليلاً جداً من الأميركيين هو فقط الذي يشعر أنه أفضل حالاً بكثير مما كان عليه منذ ثماني سنوات، على الرغم من التحسن في مجال الوظائف. أما في اليابان، وأوروبا، وأميركا الجنوبية، وأماكن أخرى فتبدو الأمور أكثر قتامة. في خاتمة المطاف، يمكن لأوباما، إذا ما شاء، أن يستخدم فترته الأخيرة في المنصب، كما فعل سابقوه بلا استثناء، في إظهار نفسه كـ«رئيس سياسة خارجية»، ورجل دولة عالمي، يأمر من وقت لآخر بتنفيذ عمليات عسكرية، ويتحدث في مؤتمرات القمة المهمة، ويعلن عن عقد صفقات مع رؤساء دول أجانب، ويبدو من العسير إزعاجه، لأنه بات في الشوط الأخير من فترة ولايته. على النقيض من ذلك، إذا ما كان هناك شخص يمكن القول عن وضعه إنه قد انقلب رأساً على عقب، مقارنة بما كان عليه في هذا الوقت من العام السابق، فإن هذا الشخص هو، بلا شك، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ورطة موسكو فاقتصاد روسيا المختنق بالعقوبات الاقتصادية التي فرضها عليه الغرب بعد ضمه لمنطقة القرم التابعة لأوكرانيا، تعرض لأضرار جسيمة، بسبب انخفاض أسعار البترول والغاز الطبيعي اللذين يعتبران من أهم الصادرات الروسية، لمستويات شبه قياسية. أما منطقة شرق أوكرانيا فقد تحولت إلى فوضى، حيث يمزقها صراع منخفض المستوى، وتجارة مشلولة، ونسيج اجتماعي مهترئ، وفقر للكبار، وآفاق محدودة للشباب، ويمكن القول من دون مبالغة إن روسيا لم يعد لديها سوى عدد قليل من الأصدقاء في هذا العالم. يضاف لذلك أن أفعال روسيا الخارجية، البعيدة كل البعد عن أن توصف بأنها ضربات عبقرية في مجال السياسة الخارجية، تبدو الآن كتورطات يائسة، وسيئة الطالع؛ حيث زجت بنفسها في مشاجرة كبيرة، مع تركيا، ليس متوقعاً أن تخرج منها منتصرة. وهناك عدد من التساؤلات بشأن روسيا من مثل: ما الذي يمكن لها أن تحققه - خلاف الخسائر بين جنودها، واكتساب عداوة نصف العالم الإسلامي على الأقل - من وراء مشروعها في سوريا؟ كم من الروس يتمنون اليوم قضاء عطلة في مصر؟ إن أي مواطن روسي عاقل - وهناك الكثير منهم بالطبع - يجب أن يبكي على الورطة التي يجد بلده نفسه فيها بسبب بلطجة بوتين، وسياساته الشوفينية العدوانية، ويخجل من الطريقة الصبيانية التي توجه بها بلده اللوم لأميركا دوماً بشأن أي مشكلة تحدث في هذا العالم. بعد ذلك، هناك أيضاً عدو أميركا اللدود الآخر وهو الصين، لسنوات طويلة كان بإمكان أي مراقب أن يقول: «قارن محنة روسيا بالتوقعات المذهلة الحالية للصين»، بيد أن ما نراه أمامنا الآن هو أن الجزء الخاص بالصين في هذه المقولة لم يعد صحيحاً، إلا جزئياً فقط. قصة نجاح الصين هناك مؤشرات عديدة نعرفها عن قصة نجاح الصين من مثل: النمو المدهش والمتواصل عاماً بعد عام منذ عام 1978، وانتشال مئات الملايين من الفلاحين الصينيين من وهدة الفقر، والفوائض الضخمة في التجارة مع العالم الخارجي، والاحتياطات الهائلة من العملات الأجنبية، والقطارات فائقة السرعة؛ ويُضاف لذلك كله القوة العسكرية المتنامية وعلى الأخص السلاح البحري الذي يزداد قوة على الدوام. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن هناك أيضاً مؤشرات على أن الصين تواجه في الوقت الراهن صعوبات جمة. فالاقتصاد تباطأ على نحو دراماتيكي خلال الـ18 شهراً الماضية، ومشروعات البنية الأساسية الطموحة (مثل المدن الجديدة العديدة في الجنوب والغرب) لم تعد من المشروعات التي يُستثمر فيها. محيط متوتر لم يقتصر الأمر على ذلك حيث تتعثر سوق الأوراق المالية الصينية على نحو دراماتيكي، وتصل نسبة تلوث الهواء بسبب عوادم المصانع الصينية إلى مستويات فظيعة يتخطى أثرها الحدود ليعاني منها مواطنو كوريا الجنوبية وتايوان المجاورتين، أما تصرفات الصين في مجال السياسة الخارجية، مثل إقدامها على بناء قواعد في بحر جنوب الصين، فقد أدت إلى توتير العلاقات مع جيرانها جميعاً، وجعلت البحرية الأميركية أكثر يقظة وحذراً في الحقيقة. وما زال الحزب الشيوعي يحكم الصين بالطبع، ولكن هناك أدلة متزايدة على أن الحزب بات يقود شعباً تكتنفه الصعاب، وغير راضٍ عن أوضاعه. يمكننا أن نستخدم نفس منطق النقاش فيما يخص مشهد الشرق الأوسط الذي يعمه الاضطراب، والخراب الرهيب، فمن الصحيح أن قائمة الأخطار والكوارث مازالت طويلة، ولكن يمكن للمرء، مع ذلك، أن يلمح من آن لآخر، بعض النقاط المضيئة من المنظور الأميركي، على الأقل. كما سبقت الإشارة، تبدو روسيا وكأنها قد تعلمت درساً من شجارها مع تركيا، وخسائرها في أماكن أخرى، كما يبدو تنظيم «داعش» محاصراً في أماكن كثيرة، بل ويفقد أرضاً في العراق. أما السعودية وإيران فهما منخرطان في تنافس شرس على النفوذ في المنطقة، ولكن هل يعتبر هذا حقاً شيئاً سيئاً لأميركا؟، تبقى أفغانستان جرحاً نازفاً، ولكن من دون 100 ألف جندي أميركي معرضين للخطر فيها، أما مصر فهي مستقرة وإن كانت تواجه تحديات، واليمن هش وإن كان مستقراً، أما مسألة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني فيمكن القول إنها قد باتت أقل احتداماً. وإذا نظرنا إلى إفريقيا، فسنجد أن العديد من دولها تفعل الكثير من أجل تحسين أوضاعها، أما أميركا اللاتينية فهي تعرض قصتها المتراوحة بين النجاح والفشل المعتادة، من الوعد في الأرجنتين، إلى الإحباط في البرازيل. جنوب شرق آسيا ينمو وفي قارة آسيا نجد أن رئيس وزراء الهند ماريندرا مودي يظهر من النقاط القوة أكثر مما يظهر من نقاط الضعف، وأن اليابان مازالت حتى اللحظة في منطقة الركود الاقتصاد، ولكن النمو الاقتصادي والتقدم في دول جنوب شرق آسيا مثل تايوان، وكوريا الجنوبية، مازال مستمراً في مساره المعتاد. وكل هذه المعطيات تشكل قائمة لا تعتبر سيئة بأي حال من الأحوال. لا يتبقى بعد ذلك سوى أوروبا: ألمانيا ميركل مازالت قوية، وبريطانيا ديفيد كاميرون قوية بدرجة لا بأس بها، وإن كان ملايين في البلدين سوف يستشيطون غضباً من هذين الاستنتاجين.. اسكندنافيا، وسويسرا، وهولندا أقوياء، إيطاليا لا تؤدي أداءً بالغ السوء. الأزمة اليونانية تبدو مخففة والأزمة التالية لدول الحافة الجنوبية (البرتغال، وأيرلندا، وإسبانيا) تبدو وكأنها قد جرى احتواؤها. مقابل ذلك، لابد أن نذكر الجانب القاتم والمتمثل في التقدم الذي حققه حزب «الجبهة الوطنية» الذي تقوده «مارين لوبان» في فرنسا، وتنامي المشاعر القومية الضيقة الأفق التي تمتد من بولندا لاسكتلندا، واحتمال حدوث أزمة أخرى في دول البلطيق، أو أوكرانيا. ولكن في المجمل، يمكن القول إن أوروبا ليست حالة ميئوساً منها، أو قارة على شفير الكارثة، كما قال لنا من قبل عدد كبير من المتنبئين المتشائمين. فأوروبا في نهاية المطاف، هي التي تعاملت مع أزمة اللاجئين السوريين أفضل بكثير مما كان أحد يعتقد، وهو ما يرجع في جانب كبير منه للكرم والكفاءة الألمانيين اللذين لم يكن بمقدور أحد توقعهما، وفي الحقيقة إن قيادة ميركل في هذه الأزمة كانت مدهشة، ويجب أن تجعل معظم ساسة أوروبا الغربية الآخرين يتوارون خجلاً. القوة الأولى تتراجع عبر مراحل التاريخ، كان من غير المتوقع دائماً أن تتمكن دولة واحدة - الولايات المتحدة في حالتنا - من المحافظة على نصيبها من القوة والنفوذ اللذين كانت تملكهما، عندما كانت تتربع وحدها على القمة، في عهد هاري ترومان أو جون كنيدي مثلاً. فكل قوة أولى في العالم لابد أن تنزل من عليائها يوماً ما، ولكن القوة الأولى الذكية يمكنها أن تظل رابضة على القمة لأطول فترة ممكنة، كما أثبتت الدولة الرومانية قديما وبريطانيا العظمى حديثاً. وليس هناك من سبب يحول بين أميركا وبين إدارة أفولها النسبي بطريقة ذكية إذا امتلكت الزعماء السياسيين المناسبين، وتجنبت التمدد الزائد، ولم يتملكها الهلع أمام كل عمل جريء لقوى أجنبية، وحافظت بدلاً من ذلك على هدوء أعصابها حيالهم، كي تدعهم يرتكبون بعض الأخطاء. في اللحظة الحالية، تبدو سياسات أوباما الحذرة وكأنها تمضي بشكل جيد للغاية، وفي اللحظة الحالية أيضاً، وعلى الرغم من كل مشكلات العالم، يبدو الشعب الأميركي في حالة لا بأس بها، بحيث يمكن لنا القول، بشكل عام، إن كل شيء على ما يرام، حتى هذه اللحظة. تطورات غير متوقعة في كل منطقة من المناطق الحرجة بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية: (روسيا، الصين، الشرق الأوسط، وأوروبا)، يمكن أن يحدث شيء جديد، وغير متوقع في أي لحظة. كما يمكن أن يحدث ترنح أو تراجع للوراء، كما أنه من الممكن بنفس المقياس، أن تتحسن الأشياء بالنسبة للولايات المتحدة، نسبياً على الأقل، مع مرور شهور عام 2016؛ فروسيا يمكن أن تتعثر أكثر، والصين يمكن أيضاً أن تتعثر، وكذلك «داعش». ========================= أستاذ التاريخ بجامعة «يل» ومؤلف كتاب «صعود وسقوط القوى الكبرى» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»