يثبت الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران أنه واحد من أكثر اتفاقات الحد من الأسلحة إثارةً للجدل في التاريخ. فكل جانب من الجوانب المفتاحية للاتفاق، من آليات إنفاذه، إلى شروط انتهاء فترة سريانه، إلى منظومة التحقق من بنوده، محلٌ للخلاف والنزاع. ومع ذلك، فإن قدرة هذا الاتفاق على البقاء، في التحليل الأخير لا تتوقف على الصياغات الفنية بقدر توقفها على شيء أشبه ما يكون بالأمل: الأمل في أنه بمجرد أن يبهت تأثير القيود الرئيسية للاتفاق خلال عقد من الزمن، ستكون إيران قد تحولت بالفعل إلى عضو مسؤول في المجتمع العالمي.. والأمل في أنه بمرور الوقت، ستقوم الدولة الثيوقراطية في إيران بخلع ردائها الثوري، والتحول إلى عضو مسؤول في الأسرة الدولية. وإن كان هذا رهان خطر على واحد من أكثر الأنظمة غرابة، فإن معظم الدول الثورية تتخلى أخيراً عن مواقفها العدائية، من أجل التجارة والمصالح، كما تتغلب البراجماتية على الأيديولوجية الصلبة. من الأمثلة في هذا المجال، أن السياسة الخارجية الحالية للصين لا تكاد تمت بصلة لدعوة ماوتسي تونج للتعبئة الماركسية ضد النظام العالمي. والرئيس أوباما مقتنع على ما يبدو أنه بمجرد أن يأخذ العالم المصالح الإيرانية باعتباره، وتمتلئ خزائنها بالمال، فإنها سيصعب عليها مقاومة إغراءات البراجماتية. وهذا الرأي ينطوي، في رأيي، على فهم محدود لطبيعة الدولة الدينية القائمة في إيران، وللدور الذي يلعبه الدين في رسم صورتها الذاتية. أما النظم الثورية الأخرى، فتتطور عادة عندما تنزاح الغشاوة عن عيون أنصارها المتحمسين ويخيب أملهم، فيضطرون للتخلي عن عقيدتهم «الثورية». من السهل على أي أحد، والحال هكذا، أن يكون ماركسياً سابقاً، أي أن يتخلى عن عقيدته الماركسية، باعتبار أن ذلك علامة من علامات النضج الفكري، لكن الأمر يختلف بالنسبة لرجال الدين في إيران، الذين يجدون أنه يصعب عليهم التخلي عن «التفويض الإلهي» الممنوح لهم! فالمتشددون الذين يحكمون مؤسسات إيران غير المنتخبة والخاضعة للنظام القائم، يعتقدون بأنهم موفدون في مهمة مقدسة للإنقاذ. منذ بداية الجمهورية الإسلامية في إيران، قام حكامها الدينيون بنسج سلسلة من الروايات المعقدة حول مؤامرات أميركية ضد إيران. فالولايات المتحدة من منظورهم قوة إمبريالية شريرة وقاسية، تنهب الشرق الأوسط، وهي مصدر شرير للتلوث الثقافي لسعيها إلى إغواء الشباب المسلمين باسم الحداثة، مما يعني أن التعايش مع الغرب -من منظورهم- يقود إلى فقدان الهوية الدينية والخضوع للغرب! يمكن لإدارة أوباما أن تأمل في بزوغ نظام إيراني متصالح مع الأعراف السائدة بعد إنقضاء أمد الاتفاق، لكن خامنئي يرى المستقبل على نحو مختلف تماماً. ففي خطبة ألقاها مؤخراً قال: «وفقاً لمبادئ القرآن، فإن النضال ضد الاستكبار والإمبريالية العالمية يجب ألا يتوقف أبداً، والولايات المتحدة هي النموذج للاستكبار حالياً». يمكن القول إذن إن إيران الإسلامية هي نظام خارج السياق، يتحدى الأنماط المعيارية لتطور الأنظمة الثورية، وأن النخبة المحافظة المتحكمة بالمؤسسات الرئيسية قد قامت بصياغة سياسة خارجية تحافظ على الأسس الأيديولوجية للنظام. إن إرث الاتفاق النووي لن يتمثل في إيران المتحولة، بل في نظام ثوري يمتلك بنية نووية، ويسعى للهيمنة على الشرق الأوسط. لذلك قد تخيم ظلال هذا الاتفاق على المصالح الأميركية لسنوات عديدة قادمة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»