السياسات التي فرضتها حكومة أنجيلا ميركل على بلدان جنوب أوروبا لا تختلف عن تلك التي وضعها الزعماء الأوروبيون والولايات المتحدة في أوائل الخمسينيات بقصد تمكين ألمانيا الغربية من إعادة بناء اقتصادها المنكوب بعد الحرب. إذ منذ أزمة 2008 المالية، أرغمت ألمانيا، باعتبارها الاقتصاد المهيمن والمقرض الأكبر في أوروبا، بلدانَ الجنوب المطلة على المتوسط على نهب اقتصاداتها الوطنية من أجل تسديد ديونها، وخاصة اليونان. وكان إصرار ألمانيا قوياً إلى درجة أنه قد حوّل اليونان إلى حالة تشبه تلك التي كانت عليها الولايات المتحدة غداة «الركود الكبير» عام 1929، حيث قفزت البطالة إلى 25 في المئة، وبطالة الشباب إلى أكثر من 50 في المئة، كما تقلص الاقتصاد بـ26 في المئة والاستهلاك بـ40 في المئة. وارتفع الدين إلى 175 في المئة من الناتج المحلي الخام للبلاد. وعلاوة على ذلك، ذهبت أموال القروض التي قدمتها ألمانيا ودول أخرى لليونان كلها تقريباً لخدمة الديون أو تسديد ديون سابقة، ولم يذهب إلى الحكومة اليونانية سوى 11 في المئة. وعلى نحو غير مفاجئ، انتخب اليونانيون يوم الأحد الماضي حكومة جديدة تطالب بإعادة التفاوض حول دينها. ورد المسؤولون الألمان والأوروبيون برفض قاطع على أي تغييرات من هذا القبيل. والحال أنه من حسن حظ ألمانيا أن مقرضيها اتخذوا موقفاً مغايراً بعد الحرب العالمية الثانية، حيث وافقت الدول العشرون التي كانت أقرضت ألمانيا خلال جمهورية «فايمار» قبل العهد النازي وفي سنوات ما بعد 1945 -ومن بينها اليونان- على تقليص ديون ألمانيا الغربية بالنصف. كما وافقت حينها على ألا يأتي تسديد الديون من الإنفاق الحكومي وإنما من مداخيل التصدير فقط، وعلى خفض قيمة «المارك» الألماني حتى تكبر مداخيل الصادرات الألمانية. غير أنه لا شيء من هذه الاعتبارات طبع سياسات ألمانيا الحالية تجاه اليونان. فباعتبارها عضواً في منطقة «اليورو»، لا تستطيع اليونان خفض قيمة عملتها، وبدلًا من تمكينها من زيادة صادراتها، فعلت ألمانيا كل ما في وسعها لترجيح الميزان التجاري لصالحها مع اليونان وجيرانها الأوروبيين. وباختصار، يمكن القول إن ألمانيا، وبدلًا من أن تعيد بناء اقتصادات جنوب أوروبا، جففتها وخربتها باسم الاستقامة المالية. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس