كنت قد أكدت في عمود سابق، أن ديناميات القوة بين فلسطين وإسرائيل قد تغيرت. وعقب الاعتداء الأثيم على غزة، نجحت حملة الدفاع عن الحقوق المدنية داخل إسرائيل التي حملت شعار (المقاطعة والتعرية والعقوبات) BDS في زيادة زخمها وتعزيز قوتها. وقلت إن إسرائيل تواجه أزمة على مستوى غير مسبوق من الانتقادات والاحتجاجات العالمية. ولكن، ومنذ الحرب الأخيرة على غزة، جاءت الانتقادات والاحتجاجات الأقوى، وربما الأعمق أثراً على مستقبل الدولة العنصرية، من داخل إسرائيل ذاتها، ومن المجتمع اليهودي برمته. «هذا هو الوقت المناسب للاعتراف بكل صدق بأن إسرائيل تشكل مجتمعاً مريضاً». وهذا القول ليس من تأليفي ولا من بنات أفكاري، بل يعود إلى الرئيس الإسرائيلي «روفين ريفلين» عندما كان يتحدث في مؤتمر صحفي في «أكاديمية العلوم الطبيعية والإنسانية» في القدس. وذهب في هجومه على السياسة الإسرائيلية إلى حدّ القول إن «موجة العنف في إسرائيل لم تعد محصورة في قطاع دون آخر، بل انتشرت في كل مكان، ولم يعد يخلُ منها مكان أو ساحة». وتحدث بعد ذلك عن المجتمع الإسرائيلي المعاصر كما يراه، وكيف يجب أن يكون، وعن حاجته لخلق مساحة للحوار وتغيير الأفكار، إلا أنه فشل في تقديم صورة واقعية عن الأساس الذي بنيت عليه الدولة العبرية والذي يعتمد على العنف والاعتداء على الدول المجاورة. وأصبح الميل للعنف يتغلغل في صلب المجتمع الإسرائيلي. ولو أن «ريفلين» عمد إلى الغوص أكثر في عمق التاريخ، لآمن بأفكار الإصلاحيين الإسرائيليين الذين ظهروا أواخر عقد الثمانينيات من أمثال «بيني موريس» و«سيمبا فلابان» و«توم سيجيف» الذين وقفوا على خط المواجهة ضد الحملة الدعائية المغرضة التي رافقت تأسيس دولة إسرائيل، وما تمخض عنها من مآسٍ كطرد الفلسطينيين من أرضهم عام 1948 وخلق مشكلة اللاجئين والخوف المتواصل من أولئك الذين يقفون موقف التحدي من الأكذوبة الصهيونية. والحقيقة هي أن «ريفين» لا يقف وحده في هذه الانتقادات. بل إن عدد الناشطين الذين برزوا من صلب المجتمع اليهودي، والذين يعملون على خلق مجتمع إسرائيلي عصري، ويقفون موقف التحدي من الأكاذيب التي يتشدق بها الرسميون الإسرائيليون، هو في تزايد مستمر. وجاء في رسالة جديدة موجهة إلى رئيس الوزراء ورئيس هيئة الأركان الإسرائيلي ممهورة بتوقع 43 من كبار الضباط ما يلي: «نحن الموقعون أدناه، نعلن رفضنا المشاركة في أي عمل معادٍ للفلسطينيين، كما نرفض المشاركة في الإجراءات العسكرية المعتمدة في الأراضي المحتلة. ونعلن على الملأ أن ضميرنا لم يعد يسمح لنا بأن نواصل العمل مع النظام العسكري القائم الذي يتنكر لحقوق الملايين من أبناء البشر. ونرفض المشاركة في العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين. وندعو المواطنين الإسرائيليين كافة لرفع أصواتهم عالياً حتى تكون مسموعة في كل مكان ضد الظلم والاضطهاد والعمل على وضع حدّ نهائي لهذه الممارسات. ونحن نعتقد أن مستقبل إسرائيل يعتمد على هذه الأصوات». ولا شك أن هذا النشاط مهم جداً لأنه يمثل عصياناً حقيقياً ضد إرادة الجيش الإسرائيلي، وقد يزعزع ثقة الدولة العبرية بأهم عنصر لوجودها، وهو الجيش. وفي مطلع العام الجاري، نشر «معهد أمن الشعب اليهودي» الذي يوجد مقره في القدس، نتائج دراسة استشرافية عن تطلعات اليهود المنتشرين في العالم التي تعارض سياسات الدولة العبرية. وعبرت الدراسة عن القلق الشديد من الإجحاف القائم بين أوضاع أولئك الذين يحصلون بشكل آلي على كل حقوقهم السياسية والإنسانية (اليهود)، وأولئك المحرومين من أبسط الحقوق والحريات (العرب الإسرائيليون والفلسطينيون والأقليات). وهذا الإجحاف أصبح لصيقاً باسم الدولة التي تدعي التمسك بالقيم الديمقراطية. ولم يعد في وسع هذه الطروحات أن تستمر. ووفقاً لما قاله بعض المشاركين في الدراسة، فإن احتلال إسرائيل للضفة الغربية ومواصلتها للسياسة الاستيطانية وسوء التعامل مع الأقليات، لا تشكل جميعاً مجرد اختراق للقانون الدولي، بل إنها تتعارض مع الأسس الذي تقوم عليه المفاهيم الديمقراطية. والآن، تتنادى أوساط المجتمع اليهودي العالمي من دعاة الصهيونية أو من غير دعاتها، لتنظيم أنفسها للاحتجاج العنيف على الاحتلال الإسرائيلي وحصار غزة. ولقد تجمعت في إطار حملة (المقاطعة والتعرية والعقوبات) وطالبت بإنهاء الاحتلال، والمساواة في الحقوق بين العرب والإسرائيليين، وحق المهجرين الفلسطينيين عام 1948 بالعودة إلى وطنهم على أثر «النكبة». والآن نحن نسمع صدى أصوات اليهود الداعين إلى السلام، وهي تتعالى من الولايات المتحدة، وأخرى من كندا، تطالب باستقلال الدولة الفلسطينية، وأخرى من بريطانيا تطالب بمقاطعة إسرائيل، وأخرى من أستراليا تندد بالاحتلال وتأييد الحملة المضادة لسياسات الحكومة الإسرائيلية. وتتفق آراء كل هؤلاء الناشطين على أن إسرائيل أصبحت دولة حقيقية للفصل العنصري. د. عادل الصفتي مستشار في أكاديمية سيبيريا للإدارة العامة