في مقالنا المنشور بتاريخ 2 أكتوبر2014 بعنوان «ثورة ثقافية مثلثة الأبعاد» علقنا على الثورة الثقافية التي دعا لها الأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل»، ومفرداتها إبراز صحيح الدين، وصحيح التاريخ، وصحيح العلم. ونريد اليوم أن نناقش المفردة الثانية من مفردات الثورة الثقافية المقترحة، وهي صحيح التاريخ. والواقع أن في هذا المجال تواجهنا مشكلات نظرية ومنهجية متعددة. ولعل أبرز هذه المشكلات هي قضية الموضوعية في كتابة التاريخ. والواقع أن موضوع الذاتية والموضوعية شغل فلاسفة علم الاجتماع ردحاً طويلاً من الزمان، بدأ منذ نشأة العلوم الاجتماعية. في هذه النشأة حدث تركيز على مطلب الموضوعية تحت تأثير مؤسس علم الاجتماع الفرنسي «إميل دوركايم» (وهو بالمناسبة الأستاذ الذي أشرف على رسالة «طه حسين» في السوربون عن ابن خلدون)، والذي قرر في عبارة قاطعة «على الباحث العلمي – حين يتصدى لمشكلة بحثية- أن يتخلى عن تحيزاته وأهوائه، وعليه أن يدرس الظواهر الاجتماعية وكأنها أشياء». مع مرور الزمن لم يصمد هذا الموقف المثالي أمام الممارسة العملية للعلماء الاجتماعيين فقد تبين يقيناً أن الموضوعية الخالصة تكاد تكون مستحيلة، فالمؤرخ الماركسي– على سبيل المثال- الذي يدرس الوقائع التاريخية في بلد ما سيتأثر من دون أدنى شك بالإطار النظري الماركسي وبمقولاته الذائعة. في حين أن المؤرخ الإسلامي سيسرد الوقائع نفسها بطريقة مغايرة تماماً، وفقاً للمسلمات الإيديولوجية التي ينطلق منها. وقد أتيح لعالم الاجتماع السويدي الشهير «جونار ميردال» أن يحل هذه الإشكالية حلاً نهائياً حين دعته الدوائر الأكاديمية الأميركية أن يكتب كتاباً عن التعصب ضد الزنوج الأميركيين، وأخرجه بالفعل بعنوان «معضلة أميركية». كيف حّل «جونار ميردال» الإشكالية؟ حّلها بعبارة حاسمة حين قال: «الموضوعية هي أن تعلن عن ذاتيتك منذ البداية»! بمعنى أنه على عالم الاجتماع الماركسي أن يعترف منذ بداية بحثه أنه ينطلق من مبادئ الماركسية، وأن عالم الاجتماع الوظيفي الذي لا يقبل مقولة الصراع الطبقي على إطلاقها -كما يفعل الماركسي- عليه أن يعترف بذلك منذ البداية. وأصبحت المسلمة السائدة بعد ذلك أن الخطاب العلمي السوسيولوجي لا يمكن أن يكون موضوعياً بهذا المعنى، وأن على العكس فإن الذاتيات المتعددة أو فلنقل الأطر النظرية المتنوعة من شأنها أن تثري البحث العلمي. غير أنه بالإضافة إلى مشكلة الذاتية والموضوعية لدينا مشكلة أخرى لا تقل أهمية، وهي تعدد أساليب كتابة التاريخ. فهناك مؤرخون محترفون لا يجيدون سوى سرد الوقائع التاريخية والتثبت منها من مختلف المظان والمصادر، وذلك بغير إطار نظري شامل ومن دون قدرة على تأويلها. وهذا النوع من الكتابة التاريخية – على الرغم من أهميته- إلا أنه أقل أنواع الكتابات شأناً، لأنه لا يعطي القارئ الاستبصار اللازم بالدلالات العميقة للأحداث التاريخية. غير أن هناك مؤرخين محترفين -وإن كانوا ندرة – يمتلكون ناصية تسجيل الوقائع وتأويلها معاً، وعلى رأس هؤلاء المؤرخ البريطاني «إيريك هوبزباوم» الذي كتب تاريخاً فذاً للقرن العشرين بعنوان «عصر التطرفات»، تبدو فيه أهمية تأويل الحوادث التاريخية. ونصل من بعد إلى أزمة التقييم التاريخي للحوادث والوقائع المعروفة، والتي تشير إلى أن ما يسمى «الحقيقة التاريخية» قد تكون استعارة جذابة، وإنْ لم تكن دقيقة تماماّ! لأن الحقيقة التاريخية ستتوزع بين المؤرخين الذين ينتمون إلى إيديولوجيات ومدارس فكرية متعارضة. ولنأخذ على سبيل المثال موضوع الحقيقة التاريخية بين الناصرية والإسلام السياسي. والسؤال هنا كيف يقيم المشروع الناصري من ناحية ومشروع «الإخوان المسلمين» من ناحية أخرى، وخصوصاً بعد الصراع الحاد الذي دار بين المشروعين بعد ثورة يوليو 1952. لا نبتعد عن الحقيقة كثيراً إذا ما لخصنا المشهد المصري الذي استمر من عام 1945 حتى عام 1952 بعبارة جامعة، مفادها بأن احتدام الصراع السياسي والطبقي في مصر من ناحية، والمواجهة مع المحتل الإنجليزي من ناحية ثانية، تحول إلى موقف ثوري بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ في علم الثورة. غير أن الثورة لم تتسلم مشروعاً وطنياً مكتمل البنيان، لأنه كان في الواقع مشروعاً في سبيل التبلور والتكوين، وبعض عناصره كانت تتسم بالعمومية الشديدة. والواقع أن العمل الإبداعي للثورة أنها أكسبت هذا المشروع – بالتدريج وعلى مرّ الزمن ومن خلال المحاولة والخطأ- التناسق الفكري الضروري، ليصبح مشروعاً حضارياً قومياً، كان عنوانه في الواقع تحقيق العدالة الاجتماعية لجموع الشعب المصري. ويبقى السؤال ما هي الملامح الأساسية لمشروع «الإخوان المسلمين؟ يمكن القول: «إن المشروع الإسلامي -ونقصد به الحركة الإسلامية التي ظهرت بعد إنشاء (حسن البنا) لجماعة الإخوان المسلمين عام 1928- يمر منذ قيامه بأزمات بالغة العمق». ويدل على ذلك اصطدام جماعة الإخوان المسلمين بكل النظم السياسية المصرية ابتداءً بالنظام الملكي الدستوري في الأربعينيات، إلى النظام الناصري في الخمسينيات والستينيات، إلى النظام المصري في عصري «السادات» و«مبارك». مما يدل على أن هذا الصدام المتكرر يعني أن هناك عيوباً جسيمة اعتورت المعمار الفكري السياسي لهذا المشروع الذي انتشر أتباعه في عديد من بلاد العالم. وقد ساد، منذ سنوات، تقسيم تقليدي، يفرق بين الإسلام المعتدل الذي تمثله جماعة «الإخوان المسلمين» والإسلام المتطرف الذي تتبناه الجماعات الجهادية والتكفيرية، التي مارست الإرهاب الصريح ليس ضد السلطة فقط، ولكن ضد الشعب المصري بكل فئاته، كما سبق أن فعلت جماعة «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» في مصر. غير أنه تبين عبر الزمن -كما ثبت خصوصاً بعد ثورة 25 يناير، ونجاح جماعة «الإخوان المسلمين» في الوثوب إلى السلطة السياسية في مصر، بعد أن حصلوا على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، وبعد أن أصبح رئيس حزب «الحرية والعدالة» الإخواني «محمد مرسي» رئيساً للجمهورية- أن التفرقة بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف وهمية، وأن جماعة «الإخوان المسلمين» هي المصدر الرئيس للتطرف الديني، وهي الراعية الحقيقية للإرهاب. ثبتت هذه الحقائق بعد أن أسقط الشعب في 30 يونيو حكم الإخوان المسلمين، وعزل الرئيس «محمد مرسي»، وألقى القبض على قيادات الجماعة، ومن ذلك التاريخ قامت الجماعة بحملة إرهابية منظمة على المؤسسات وعلى قوات الأمن والقوات المسلحة، بل وجهت هذه الحملة سهامها الغادرة ضد فئات الشعب جميعاً بلا تمييز. وهكذا سقط القناع، وظهرت جماعة «الإخوان المسلمين» باعتبارها جماعة إرهابية، كما أعلنت الدولة المصرية والسعودية، وغيرها من دول الخليج. وهكذا يمكن القول: «إن الحقيقة التاريخية فيما يتعلق بتوجهات المشروع الناصري، ومنافسه المشروع (الإخواني)، لم يكن ممكناً الوصول إليها بحد معقول من اليقين إلا بعد مرور سنوات على قيام ثورة يوليو، وفحص المواجهات الدامية بين مشروعها ومشروع جماعة (الإخوان المسلمين) الإرهابي، والذي أسقطه الشعب في 30 يونيو».