عندما تحدث المرشح للرئاسة الأميركية باراك أوباما في شهر يوليو من عام 2008 في برلين قريباً من بوّابة براندنبورغ الشهيرة، قال لمستمعيه الألمان إن تحقيق السلام والتقدم «يتطلب التعاون الصادق بين حلفاء يستمعون لبعضهم بعضاً، ويتعلمون من بعضهم بعضاً، والأهم من ذلك أن يثقوا في بعضهم بعضاً». وكان من المؤمّل أن يتبنى أوباما السياسة النقيضة لدبلوماسية رعاة البقر التي كان يتبناها سلفه بوش التي أحدثت نوعاً من الشقاق بين الولايات المتحدة وألمانيا ومعظم الدول الأوروبية الأخرى. ولكن المفارقة، أنه بعد مرور ست سنوات على ذلك الحديث، أصبح الآن انعدام الثقة بين واشنطن وبرلين أقوى من أي وقت مضى. وتكمن مشكلة العلاقة الراهنة بين البلدين في أن أوباما كان «يستمع أكثر من اللازم» إلى الألمان من خلال التجسس عليهم عبر أكثر من 150 من المواقع والبؤر التجسسية التابعة لوكالة الأمن الوطني في ألمانيا. وقد تم كشف النقاب عن هذا السرّ الخطير من خلال نشر وثائق الوكالة عبر تسريبات المتعاقد السابق معها أدوارد سنودن لمجلة «دير شبيجل» الألمانية. أما الألمان، الذين لا ينسون أبداً معاناتهم المريرة من الرقابة الاستخباراتية الجائرة التي فُرضت عليهم أيام الحكم النازي ثم في عهد الحكم الشيوعي لألمانيا الشرقية، فقد أوكلوا أمر حفظ وحماية بياناتهم الحساسة لجهاز الرقابة الرسمي التابع للدولة. وكان انكشاف وقائع التجسس على ألمانيا التي تعد من أهم الدول الحليفة لأميركا، بما في ذلك التنصّت على الهاتف الشخصي للمستشارة أنجيلا ميركل، عبر جهاز مزروع فوق سطح السفارة الأميركية في برلين، كافياً لاستثارة الغضب المرير في الشارع الألماني. وقد صدر عن الرئيس الألماني جواكيم جواك الذي يحظى بالاحترام والتبجيل في البلاد تصريح جاء فيه أن هذه المزاعم المتعلقة بالتجسس الأميركي على ألمانيا، لو صدقت، فسنقول للأميركيين بالفم الملآن: «كفى.. كفى». وقد اختصر «ستيفان ماير» المتحدث باسم حزب ميركل الإجراءات الاحترازية المطلوبة بكلمة واحدة عندما قال: «علينا أن نركّز بشكل قوي على نشاطات من ندعوهم: الحلفاء». ونتوقف عند كلمة «ندعوهم» لنشير إلى أن استخدامها لم يكن أمراً يمكن التفكير فيه قبل بضع سنوات قريبة. وهي تعكس بصدق موقفاً أكثر احتقاناً نحو أميركا من طرف الرأي العام الألماني. ونتيجة لكل ذلك، تعمل ألمانيا الآن بدأب على إحداث تحولات حاسمة في علاقتها مع الولايات المتحدة. وبعد هزيمة النازيين بزعامة أدولف هتلر في عام 1945، شدّد «كونراد أديناور» مستشار الجمهورية الألمانية الأولى على أن من واجب ألمانيا أن تضع حداً لسياسة الحياد في الصراع بين الشرق والغرب، وألا تعتبر نفسها دولة مستقلة بشكل كامل. وعليها، بدلاً من ذلك، أن تربط نفسها بالغرب من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. ولا يمكن إلا لواشنطن وحدها أن تكون الضامن للحرية والديمقراطية في ألمانيا الغربية. إلا أن هذه السياسة التقليدية بحد ذاتها أشرفت الآن على نهايتها عندما بدأت ألمانيا تتبنّى سياسات تحقيق مصالحها الوطنية الجديدة. وتبدو ألمانيا الآن أكثر ميلاً للتقارب مع روسيا من ميلها للتقارب مع أميركا. ويعمل المستشار الألماني السابق شرويدر عضواً في مجلس إدارة شركة «غازبروم» الروسية، وهو من المقربين من بوتين. ولا يتوقف الأمر على شرويدر وحده، بل إن المستشار الأسبق «هلموت شميدت» قال عقب اندلاع المشكلة الأوكرانية إنه يتفهّم جيداً حق بوتين في ضم شبه جزيرة القرم. وفوق هذا وذاك، تقتضي المصالح الألمانية التجارية الآن أن تعمد برلين إلى تعزيز صداقتها مع موسكو. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سرفيس»