على مدى ثلث القرن الأخير، شهدت الولايات المتحدة عملية بطئية، لكنها حثيثة، لتفسخ مكاسب النمو المعمم والشامل الذي أعقب الحرب العالمية الثانية إلى درجة أنه عندما ضرب الركود الاقتصادي الكبير في 2007 لم يعد أحد قادراً على تجاهل الشروخ العميقة التي باتت ترخي بظلالها الثقيلة على المشهد الاقتصادي الأميركي، فكيف وصلت الحال «بهذه المدينة الرابضة فوق تلة»، كما تحب أميركا أن تصور تميزها ورسالتها المتفردة، إلى هذا الدرك الأسفل من الفوارق الصارخة وانعدام المساواة؟ الحقيقة أن جزءاً من هذا النقاش حول اللامساواة أطلقه كتاب الاقتصادي الفرنسي، توماس بكيتي، بعنوان «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين»، الذي استقر على فكرة مثيرة للجدل تقول، إن هذا التطرف الكبير في فوارق الثروة والدخل هو جزء أصيل من النظام الرأسمالي نفسه، بحيث يُنظر إلى الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وشهدت نوعاً من النمو المتوازن، على أنها الاستثناء الذي لا يفسر القاعدة. والحال أن هذه القراءة ليس ما رمى إليه الكتاب الذي يوفر سياقاً مؤسساتياً لفهم الفوارق الآخذة في التجذر، لكن مع الأسف لم يحظ هذا الجزء من الكتاب، الذي يبحث عن الأسباب الحقيقية وراء الفوارق وانعدام المساواة، بالقدر نفسه من الاهتمام الذي حظيت به القراءة الحتمية التي جعلت الرأسمالية والفوارق وجهين لعملة واحدة، كما لا تعدم الرأسمالية نماذج تكذب فكرة حتمية توجهها نحو الفوارق، ذلك أن الرأسمالية الإمبريالية للقرن التاسع عشر ليست هي الرأسمالية الديمقراطية التي يفترض أن تكون حالياً. والأكثر من ذلك أن نسختنا الراهنة من الرأسمالية ليست سوى طبعة مزيفة تناقض أهم المبادئ الأساسية التي يقوم عليه نظام السوق، ولا أدل على ذلك من طريقة تعاملنا مع الأزمة الاقتصادية الأخيرة، حيث عممنا الخسائر على الجميع، فيما خصصنا المكاسب والأرباح، ومع أن المنافسة التي هي إحدى الركائز المبدئية للرأسمالية تقتضي نظرياً خفض الأرباح إلى الصفر، إلا أننا ومن خلال الشركات الاحتكارية الكبرى التي تراكم الأرباح قلبنا القاعدة، هذا ناهيك عن تعويضات مديري تلك الشركات التي تتجاوز في متوسطها دخل العامل العادي بحوالي 295 مرة، وهو المعدل الذي يتخطى بكثير ما كان عليه في السابق دون وجود رابط بالضرورة بين تلك التعويضات الخيالية وارتفاع المردودية. وإذا كانت لا علاقة واضحة بين الهوة الكبرى في أميركا وقوانين الاقتصاد المعروفة والراسخة، فما الذي يفسر الفوارق الهائلة في الدخل وانعدام المساواة؟ الجواب المباشر والأكيد هو السياسات المتبعة وأسلوب ممارسة السياسة في واشنطن، فرغم الملل الذي يصيب البعض من تكرار الإشارة إلى نماذج أوروبا الاسكندنافية والنجاحات التي حققتها دولها، إلا أنه لا بد من الوقوف عندها، فتلك المنطقة حققت نمواً في الدخل الفردي يفوق ما أنجزته الولايات المتحدة، كما استطاعات ردم الهوة بين شرائح المجتمع في نوع فريد وناجح من إقرار المساواة والعدالة الاجتماعية. فلماذا فشلت أميركا إذن في اتباع سياسات تشجع على المساواة؟ جزء من الجواب أنه وكما غيب النسيان فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فكذلك غيب أحد أهم خصائصها المتمثلة في التضامن، فما أن انتصرت أميركا في الحرب الباردة حتى خيل لها أنه لم يعد هناك من منافس على الساحة الدولية يزاحمها الريادة الأيديولوجية، وما عادت هناك بالتالي من حاجة لصياغة نموذج اقتصادي قائم على التضامن يرد على فكرة المساواة التي روج لها النظام الشيوعي. ويبدو أن الأيديولوجية والمصالح تضافرتا للوصول إلى الخلاصات الخطأ بعدما اعتبر البعض أن مزيداً من التدخل الحكومي في الاتحاد السوفييتي يعني بالضرورة تدخلاً منعدماً في الولايات المتحدة، فضغطت الشركات والمصالح المتحالفة معها للتخلص من القيود واللوائح التنظيمية، حتى لو كانت هذه الأخيرة ضرورية لحماية البيئة والدفاع عن صحة المستهلك وعافيته، بل وسلامة الاقتصاد نفسه. لكن سيتبين لاحقاً أن أيديولوجية عدم تدخل الدولة في الاقتصاد زائفة ومنافقة وبأنها تغطي المصالح ولا علاقة لها بمبادئ الرأسمالية، ذلك أن المصرفيين الذين هم من أشد المنافحين عن اقتصاد السوق، كانوا أول من رغب في الاستفادة من مئات المليارات من الدولارات التي خصصتها الحكومة لإنقاذ الاقتصاد من وعكته، وهو أمر لا يقتصر على الركود الأخير، بل كان أحد الملامح الأساسية لهذه النسخة من الرأسمالية منذ فترة ريجان وتاتشر. ولأن النظام السياسي الأميركي مرتبط بالمصالح الاقتصادية، فإن المال غالباً من يقرر السياسات، وتتحول الفوارق الاقتصادية إلى فوراق أخرى على المستوى السياسي، فيما هذه الأخيرة تقود بدورها إلى انعدام المساواة الاقتصادية، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة، وكما يوضح ذلك «توماس بكيتي» في كتابه يسعى أصحاب الثورات الطائلة إلى الحفاظ على عوائد مرتفعة مقارنة بنسبة النمو الاقتصادي حتى بعد دفع الضرائب، وهم يقومون بذلك من خلال صياغة قواعد اللعبة التي تصب في مصلحتهم عن طريق التحكم السياسي. وهكذا ينتهي بنا الوضع في إطار نظام لرعاية الشركات في وقت تخفض فيه الدولة رعايتها للفقراء، حيث يصر الكونجرس الأميركي مثلاً على إبقاء دعمه الموجه لكبار المزارعين، فيما تخفض المساعدات الغذائية للمحتاجين، وفي حين يقلص الدعم المخصص للبرامج الصحية تغدق الدولة مئات المليارات من الدولارات على شركات الأدوية. أما البنوك التي تسببت في الأزمة المالية، فقد واصلت استفادتها من أموال الدولة، رغم استمرار تضيق على أصحاب الرهن العقاري الذين تحولوا إلى ضحايا الممارسات الابتزازية للبنوك والمصارف. وبالطبع فإن من يدفع ثمن هذا الشطط في السياسات المنحازة للشركات هي الديمقراطية والمجتمع، فالمحك الحقيقي للاقتصاد ليس في قدرة الطبقات المحظوظة على مراكمة المزيد من الثروة، ثم نقلها إلى الجنات الضريبية، بل في استجابته للمواطن العادي، لا سيما في بلد مثل أميركا يفاخر بأنه مجتمع الطبقة الوسطى، ولعله من القصص المؤلمة الدالة على جسامة الفوارق إحباط الشباب بسبب عجزه الانتساب إلى الطبقة الوسطى الآخذة في الانكماش. وأخيراً لا يمكن طرح إشكالية اللامساواة على أنها مسألة اقتصادية تقنية، بل هي مشكلة سياسية تتمثل في ضمان أن يدفع من هو في أعلى قمة الهرم حصتهم العادلة من الضرائب، وإنهاء الامتيازات الخاصة التي يستفيد منها المضاربون، والشركات، وليس لأننا ضد الجشع يعني أننا ندعو إلى الحقد الطبقي. فالمساواة لا تقتصر فقط على توزيع عادل للدخل من خلال نسبة محددة للضرائب المفروضة على الأغنياء، إنما هي بالأساس إتاحة الغذاء للأطفال، وإقرار الحق في الولوج إلى مؤسسات العدالة، كما أنه إنفاق أكثر على التعليم والصحة والبنية التحتية ما دام ذلك في النهاية سيصب في مصلحة الاقتصاد سواء اليوم أو غداً. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»