تُظهر جهود جون كيري الفاشلة للتقريب بين الإسرائيليين والفلسطينيين وإبرام اتفاق سلام أن سبب ما حدث هو كونه قد أراد أن يرى العالم على الطريقة التي يريدها لا كما هو في الواقع. والجيد في الأمر أن تلك المفاوضات ما كانت لتُعقد أصلاً لولا كيري نفسه، ولكن السيئ أيضاً هو أنه اهتم بعقد المحادثات أكثر من اهتمام الإسرائيليين والفلسطينيين أنفسهم بذلك. وقد وقع وزير الخارجية الأميركي في فخ من فخاخ التفاوض والوساطة التقليدية، ذلك أنه بات مقتنعاً بأنه لا غنى عنه وبأهميته في عملية التفاوض، وربما بالغ بدرجة كبيرة في قدرته إلى إحراز تقدم. وقد عملت مع عدد من سابقيه، ولم أقابل وزير خارجية أكثر منه ثقة في نفسه، إلا أن كيري، المفعم بالأمل والعنيد والمؤمن الحقيقي بحل الدولتين أساء تقدير دوره في ثلاثة أمور، إذ اعتقد أن الوقت في صالحه وهذا لم يكن صحيحاً، واعتقد أن لديه من مهارات الإقناع ما يكفي للتوصل إلى اتفاق، والأمر ليس كذلك، واعتقد أن هذه كانت فرصته الأخيرة، وهو مخطئ في هذه أيضاً. وقد بدا أن ملاءمة التوقيت لكيري كانت مصادفة، لاسيما أن الرئيس أوباما في فترته الثانية ومع عزمه التركيز على ميراثه الداخلي، من ثم تعين عليه تفويض بعض قراراته بشأن السياسية الخارجية، وليس السيطرة عليها كما فعل مع هيلاري كلينتون. وعلاوة على ذلك، هناك كثير من الأزمات الدولية التي تطلبت إرادة سياسية قوية، من بينها روسيا وإيران وسوريا التي أصبحت أزمة أكبر بكثير مما كانت عليه في فترة أوباما الأولى. وعلى رغم ذلك، ربما أن هذا كان بالفعل هو الوقت الملائم لكيري، ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة لكل من نتنياهو ومحمود عباس، على الأقل لصنع السلام. وربما أن المرحلة الأولى من تلك المفاوضات، حيث لم يمكن للطرفان في اجتماعاتهما المباشرة أن يتوصلا إلى أساس للمضي قدماً، كانت كفيلة بدق جرس الإنذار لأي دبلوماسي أقل ثقة بنفسه. ومن غير المتصور أن يقوم رئيس وزراء إسرائيلي مشغول البال بملف إيران ولا يتخيل نفسه أبداً مؤيداً لقيام الدولة الفلسطينية أن يتخذ قرارات بشأن النقاط الجوهرية العالقة مثل الحدود وكيفية تقسيم القدس، اللازمة من أجل التوصل إلى اتفاق. وفي المقابل لم يكن عباس، المرتبط أيضاً بإجماع فلسطيني قوي وغير الواثق تماماً في نتنياهو، ليلزم كيري. ومن دون حاجة ملحة كافية لإبرام اتفاق، أصبحت المحادثات خاصة بكيري أكثر من كونها متعلقة ومخصصة للإسرائيليين والفلسطينيين، كما أن أوباما لم يكرس نفسه للأمر، في حين يحتاج وزير الخارجية الدعم الكامل من الرئيس كي ينجح. وبحلول الربيع تحولت جهود كيري إلى مجرد محاولة للحفاظ على استمرار المحادثات، وفي النهاية لم يتمكن حتى من فعل ذلك. وقاد اعتقاد كيري بأن هذه هي فرصته بلا منازع إلى اقتناعه أكثر من اللازم بمهاراته، وفي ضوء عمله في مجلس الشيوخ وتعامله مع الإسرائيليين والعرب والفلسطينيين على مدار أعوام، كان كيري محقاً في تقديم نفسه بصفته خبيراً في هذه الأمور، كما أن قدرته على الإنصات أسطورية، وفقاً للقريبين منه. ولكنه سرعان ما اعتبر نفسه المحلل وصانع السلام الأفضل، وأحاط نفسه بموظفين ومساعدين سابقين في مجلس الشيوخ ممن لا يجرؤون على تحدي مديريهم صاحب الإرادة القوية. وقد أخبرني هؤلاء المطلعون على المحادثات الأخيرة بأن كيري لم يحاول الاستفادة كثيراً من الخبراء ولم يُعر سمعه للمتشككين، في حين أن جيمس بيكر ومادلين أولبرايت كانا، في مثل هذه الأحوال، سيتركان مستشاريهما يتجادلون ومن ثم، يفرقان بين الغث والسمين. وفي غضون ذلك، لا نعلم شيئاً بشأن التطمينات التي حصل عليها كيري من نتنياهو وعباس بشأن حدود الدولة الفلسطينية، ومسألة الاعتراف بيهودية إسرائيل، وكيفية التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين، أو ما إذا كان حصل تقارب بين الطرفين من الأساس. وقد نجح كيري في الحفاظ على صمت الزعيمين علانية عندما يتعلق الأمر بجوهر المحادثات. ولكن هناك شيء نعرفه هو أنه بعد تسعة أشهر من الجهود المكثفة، تحولت العملية من محاولة التوصل إلى اتفاق شامل بشأن الحدود والأمن واللاجئين والقدس، إلى مناقشات بشأن اتفاق إطار عام، ثم إلى معركة خاسرة بشأن مجرد تمديد المحادثات. ويحتاج أي وسيط إلى الإيمان والثقة بنفسه، ولكن من الممكن أن يخسر قدرته على رؤية الأمور في سياقها الصحيح، وأن يفرط في إيمانه بنفسه ويفكر في المفاوضات بصورة أكبر من منظور الشخصنة ووفقاً لعلاقاته الشخصية. وربما أن كيري بالغ في اعتقاده أن بمقدوره إحراز تقدم، بينما كان الزعماء والمفاوضون الآخرون يقولون «كلا: لن تفعل». ويقضي الوسيط مئات الساعات مع هؤلاء الزعماء أثناء المفاوضات، ويشجعونه بإبداء الرغبة في التوصل إلى حلول وسط وإصلاحات، الأمر الذي يبدو جديداً وتاريخياً، حتى بشأن أكثر القضايا حساسية. وقد يعتقد الوسيط بشكل ما أن علاقاته الشخصية بأحد أطراف التفاوض يمكن أن تحفزه على تقديم تسوية بشأن قضية معينة، ولذا يميل إلى الاعتقاد بأن بمقدوره تحقيق ما لم يحققه الوسطاء السابقون. وقد أفضى إيمان كيري وثقته بنفسه إلى فكرة «الفرصة الأخيرة»، والتي كانت هدامة، إذ أخبر وزير الخارجية العالم بأنه من دون حل الدولتين فستحدث كارثة، وحذر من وقوع انتفاضة ثالثة، ونهاية إسرائيل كدولة يهودية، ومقاطعة دولية، وحتى من ظهور إسرائيل كدولة فصل عنصري. ولاشك في أن المستقبل من دون حل الدولتين يبدو قاتماً، غير أن المهم أن يؤمن الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني بذلك أكثر من إيمان كيري، إذ لا يمكن له أن يخيف عباس ونتنياهو كي يفعلا أشياء لا يرغبان في فعلها. ولذا، كانت المحاولة إظهاراً فارغاً للقوة والحلول الأميركية، وخصوصاً إذا لم تكن مدعومة من البيت الأبيض. كما أن هذه ليست كما قال كيري الفرصة الأخيرة للسلام في الشرق الأوسط، ولذا فعندما تستأنف عملية كيري للسلام، وهو ما سيحدث بالتأكيد، على البيت الأبيض أن يجعل الإسرائيليين والفلسطينيين يؤمنون بها على الأقل بقدر ما تؤمن واشنطن بذلك. ---- يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»