لماذا باءت جهود وزير الخارجية الأميركي جون كيري الرامية للتوصل إلى اتفاق إسرائيلي فلسطيني بالفشل؟ في نقاش حول أسباب هذا الفشل، قال مسؤولون أميركيون شاركوا في المفاوضات للصحفي الإسرائيلي ناهوم بارنيا إن «ثمة أسبابا كثيرة لفشل جهود السلام، لكن على الإسرائيليين أن لا يغفلوا عن الحقيقة المرة: إن السبب الرئيسي يعود للمستوطنات». غير أن هذا التفسير يعكس بعض الحقيقة وليس كلها. فلا أحد ينكر التأثير المدمر للنشاط الاستيطاني، لأنه يحكم ويحسم مسبقاً نتيجة المفاوضات، ويذل الفلسطينيين، ويبعث إشارات بأن لدى إسرائيل أجندات أخرى غير تحقيق السلام، لكن لنكن واضحين: فعملية السلام التي رعاها كيري لم تفشل بسبب المستوطنات أساساً؛ ذلك أنها كانت موصولة بأجهزة التنفس الصناعي من البداية، وفي ما يلي الأسباب. المشكلة الصغيرة الكبيرة: يمكن القول إن أقصى ما يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مستعد لتقديمه بخصوص المواضيع الجوهرية التي تحرك النزاع الإسرائيلي الفلسطيني لا يمكن أن يتماشى مع أقل ما يبدو أن رئيس السلطة الفلسطينية عباس مستعد لقبوله. وإذا كنت تريد أن تعرف لماذا فشلت كل جهود السلام خلال العقد الماضي، فذاك هو السبب. فالهوة حول القدس، والحدود، والأمن، واللاجئين، والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.. هي بكل بساطة أكبر من أن تُجسر. فهي غير قابلة لأن تحلّ بشكل تدريجي وليست عمليةً كحزمة من المقايضات يمكن أن يقبل بها الجانبان. وبالطبع، يمكننا أن نلوم هذا الجانب أو ذاك، لكن ثمن أي اتفاق ينهي النزاع هو بكل بساطة أعلى مما يستطيع كل جانب تحمله. استمالة نتنياهو: الواقع أن فكرة أن نتنياهو مستعد لدفع الثمن ويمكن إقناعه بفعل ذلك، مثّلت سوء فهم كبير للرجل وتاريخه. فهو الذي أضحى الآن ثاني رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل يشغل هذا المنصب لأطول فترة، لم يتصور نفسه أبداً مولّدا أو أبا لدولة فلسطينية. فذلك يتنافى مع شخصيته، والأيديولوجيا، والعائلة، والسياسة، ومخاوفه من العرب.. كلها عوامل تدفعه باتجاه مختلف. إنه ينظر لنفسه باعتباره الزعيم الإسرائيلي الذي عليه قيادة إسرائيل بعيداً عن شبح القنبلة النووية الإيرانية وتوجيهها عبر تحديات عالم عربي غاضب ومختل ومحطم على نحو خطير. كما أنه يعكس المزاجَ العام لجمهور إسرائيلي لا يرى سبباً للتعاطي مع المشكلة. فالحكم يعني من جملة ما يعنيه الاختيار. وفي الوقت الراهن، يبدو أن نتنياهو قد قام بالاختيار. المراهنة على عباس: لقد كان الفلسطينيون الطرف الأضعف في المفاوضات، والفكرة القائلة بأنه يمكن التعويل عليهم لتقديم تنازلات تأخذهم بعيداً عن إجماعهم الوطني، كانت هي الافتراض الآخر الخاطئ. فتحت قيادة عرفات، وهو زعيم كان يحظى بمصداقية وشرعية أكبر من عباس، لم يكن الفلسطينيون مستعدين للتخلي عن هذا الإجماع، فلماذا سيكون عباس مستعداً للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية؟ الموضوع لا يتعلق بما كان عباس مستعداً ليقوله لكيري أو نتنياهو على انفراد، وإنما بما كان مستعداً ليقوله علناً وما كان ينبغي أن يُدفع له حتى يقوله. فعباس يرأس اقتصاداً ضعيفاً وحركةً منقسمة. ثم إنه يحظى بدعم قليل من الدول العربية. وعليه، فالفكرة التي تقول بإمكانية التعويل عليه لتقديم أشياء كبيرة كان ضرباً من الخيال. والواقع أن المفاوضين الأميركيين، بمن فيهم كاتب هذه السطور، استخفوا بما يحتاجه الفلسطينيون في المفاوضات لسنوات. ذلك أن عباس كان لديه دائماً مخطط بديل: الذهاب إلى الأمم المتحدة، التفاوض حول الوحدة مع «حماس»، بل وحتى حل السلطة الفلسطينية. فهو أكثر ارتياحاً في هذا الوسط، ونتنياهو أكثر ارتياحاً لكونه رئيس وزراء أمن بدلا من أن يكون رئيس وزراء سلام. كما أن عباس لا يرى سبباً للعجلة في التفاوض حول سلام لا يلبي احتياجاته. فرصة كيري الأخيرة: لا أحد يمكن أن يجادل بأنه كان من الخطأ أن يسعى كيري لرؤية ما يمكن أن يفعله بخصوص المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية؛ لكن ينبغي لأحد أن يتفاجأ لأنه لم ينجح. لقد كانت جهود كيري مبنية إلى حد كبير على ما كان ينظر إليه باعتباره فرصة واعتقاده بأن الوقت موات، والحال أنه لم يكن كذلك. ثم إن أيا من الجانبين لم يكن يرى في جهود كيري ما يدعو للعجلة، وأوباما نفسه لم يكن مستعداً لدعم مقاربة كان سيضغط فيها كيري على إسرائيل بشكل مباشر أو حتى غير مباشر عبر تقديم مخطط أميركي. وربما لم تكن فكرة جيدة أن يصف كيري جهوده بالفرصة الأخيرة أو أن يحذر من عواقب ما قد يحدث إذا لم يتم التوصل إلى حل الدولتين، وذلك لأنه لا يمكن دفع الطرفين لاتفاق عبر التخويف. ثم إنه إذا كانت هذه هي الفرصة الأخيرة، فالسؤال في هذه الحالة هو: لماذا لم يجعل كيري وأوباما من هذه المحاولة شغلهما الشاغل ويبذلا ما بوسعهما كي تثمر، كأن يضغطا على الطرفين بقوة حتى يتوصلا لاتفاق؟ عاجلا أو آجلا، سيُستأنف نوع من عملية السلام، وهي عملية لن تموت أبداً. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فمازالت عالقة في عملية سلام تتقاذفها الأمواج، بين حل الدولتين الذي لا تستطيع واشنطن التخلي عنه وحل لا تستطيع تطبيقه. لكن في المرة المقبلة علينا -نحن الأميركيين- أن نكون صادقين على الأقل بخصوص لماذا لم نحقق ذلك: إذ لا إسرائيل ولا الفلسطينيون -ولا أوباما- مستعدون أو قادرون على دفع الثمن الذي سيكلفه ذلك. آرون ديفيد ميلر محلل سياسي أميركي متخصص في شؤون الشرق الأوسط ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. انترناشيونال»