أعلنت الحكومة العراقية خلال الأسبوع الماضي أنها بصدد إغلاق سجن أبوغريب سيئ السمعة، وأنها ستوصد أبوابه وتنقل نزلاءه إلى مكان آخر. وسواء أكان هذا الإغلاق مؤقتاً أم دائماً، وهو حسب السلطات العراقية لا يعدو كونه مؤقتاً، فإنه يمثل في جميع الأحوال علامة فارقة تختزن بين طياتها رمزية مكثفة. ففي بعض الأحيان لا تحيل المؤسسة السجينة إلى أكثر من بناية عادية لا ينطوي إسدال الستار عليها على أي مدلول، وقد تشبه في إزاحتها تدمير مبنى قديم، أو سوق متهالك. لكن في أحيان أخرى يدعو إغلاق منشأة أقيمت بغرض حبس البشر وحرمانهم من حريتهم إلى التفكير والتأمل، بل قد يمثل فرصة لا تعوض لاستخلاص العبر والاستفادة من الدروس. فعندما أخلت الولايات المتحدة معسكر الاعتقال الذي أقامته للأميركيين من أصول يابانية خلال الحرب العالمية الثانية، كان المسؤولون يسعون إلى تطهير الذاكرة من أحد الفصول المخزية في التاريخ الأميركي الحديث، ولو أنهم نجحوا في مسعاهم ذاك لأوقعوا ظلماً كبيراً بعدم توثيق الأخطاء والاعتراف بها، بل أكثر من ذلك، لما استفدنا مما تسببه هستيريا الحروب من شيطنة للآخر وإقصائه. وفي عام 1986 سقطت البناية التي دبج فيها مارتن لوثر كينج رسالته الشهيرة المعنونة «رسالة من سجن بيرمنجهام» فريسة التدمير، ولحسن الحظ أنه تم إنقاذ باب الزنزانة التي كانت توصد على زعيم الحقوق المدنية لتُعرض لاحقاً في متحف خاص يثقف زواره بمسيرة النضال الطويلة في أميركا لإحقاق المساواة بين الأعراق المختلفة. وبالمثل يعطي سجن «ألكاتراز» الشهير مثالا آخر على ما يمكن للسجون القديمة أن تختزنه من معان وعبر، فبعد سنوات على إغلاقه تفتقت عبقرية السلطات المشرفة عليه عن فكرة فتحه أمام الزوار ليشهد توافد أعداد كبيرة على المنشأة السجنية التي ضمت بين جدرانها وجوهاً معروفة في عالم الإجرام، مثل «آل كابوني»، على مدى إعجاب الأميركيين بالشخصيات المتمردة والخارجة عن القانون. لكن بالنسبة لسجن أبوغريب ينطوي إغلاقه على معنى مغاير ويحمل بين ثناياه رمزية مختلفة، فقبل عشر سنوات تعهد بوش الابن بأن الولايات المتحدة ستغلق السجن باعتبار ذلك رمزاً لبداية جديدة للعراق يُستبدل فيها المكان سيئ السمعة بمنشأة أخرى أكثر إنسانية وانسجاماً مع الأهداف الأميركية المعلنة على الأقل، الأمر الذي سيضفي عليها المزيد من المصداقية والمشروعية، غير أن بوش غادر الحياة العامة وانسحبت القوات الأميركية من العراق دون أن يفي بتعهده، ليظل السجن مفتوحاً يستقبل المزيد من النزلاء. وحتى بعد إعلان الحكومة العراقية عزمها إغلاق السجن، لا يمكن بأي حال من الأحوال التعامل مع الأمر على أنه بداية جديدة للعراق، بل يحيل الإعلان على الانهيار المستمر للمشروع الأميركي في العراق، والذي انطلق في ظل حماس أرعن لصياغة الشرق الأوسط فقط ليتم التخلي عنه لاحقاً بعد أن تعب الأميركيون من الكلفة وقرروا الانسحاب. والسجن الذي قالت الحكومة العراقية إنها ستنهي العمل به كان حتى عام 2003 جزءاً من جهاز القمع التابع لنظام صدام حسين يستخدمه لإرهاب العراقيين ودفعهم للخضوع والاستسلام لجبروته، وبعد سقوط النظام ودخول الولايات المتحدة، تحول «أبوغريب» إلى جهاز بيد السلطات الأميركية يستخدم لغرض مشابه تمثل في إكراه العراقيين وحملهم على قبول رؤية واشنطن لمستقبل بلدهم، لكن بالطبع كانت أميركا تروج لأهداف مغايرة لها في العراق تقف على طرف النقيض من تلك التي سطرها صدّام خلاله سنوات حكمه، فالرئيس العراقي السابق كان يجسد القمع والبطش، فيما الولايات المتحدة، كما رُوج لذلك، تتقمص معانى الحرية والديمقراطية التي جاءت لنشرها في العراق وتصديرها إلى باقي دول المنطقة! لذا كانت فضيحة سجن «أبوغريب» في عام 2004 الحدث الأبرز الذي أبطل ادعاءات واشنطن وقلب أهدافها رأساً على عقب؛ فالجنود الأميركيون الذين أشرفوا على انتهاكات واسعة في حق النزلاء العراقيين دقوا المسمار الأخير في نعش خطاب التحرير الأميركي الذي تبين مدى زيفه وعدم واقعيته. واليوم، وبعد مرور سنوات على خروج أميركا من العراق، يأتي الإعلان الأخير عن إغلاق سجن «أبوغريب» ليكشف حجم الفشل الذي منى به المشروع الأميركي في العراق، ذلك أن ما دفع الحكومة العراقية لإسدال الستار الأخير على السجن لا علاقة له بوضع حد لسمعته وتخليص العراق من تاريخ قاتم مازال يطارده، بل لأن السلطات في بغداد خشيت من أن يسيطر المسلحون السنة في الأنبار على السجن ويحرروا نزلاءه الذين سيتحولون إلى عناصر ناشطة في المجموعات المسلحة المناوئة للحكومة في بغداد. أما حالة الاستقرار الجزئية التي ساهمت فيها خطة الزيادة في عدد القوات الأميركية بين2007 و2008 وأسمتها واشنطن وقتئذ «انتصاراً»، فقد تراجعت مكتسباتها وعاد العراق إلى المربع الأول، حيث العنف الطائفي والاقتتال الداخلي، لذا سارعت الحكومة العراقية إلى التخلي عن سجن «أبوغريب» قبل أن ينهار ويسقط بأيدي المسلحين. وإذا كان العراقيون أنفسهم من يتعين عليهم التعامل مع النتائج والتداعيات وليس الأميركيين، فإن التداعيات الحالية هي ما يجب أن يدفع المطالبين بالتدخل في سوريا أو أوكرانيا للتوقف قليلا والتأمل في التطورات العراقية، ذلك أن دروس «أبوغريب» واضحة وماثلة أمام كل ذي عقل حصيف. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»